مدونة عبدالحكيم الأنيس


لا تتعالَ على أُستاذك (صور رائعة من احترام العلم والعلماء)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


10/03/2022 القراءات: 1789  


من الأدب مع الشيخِ الأستاذِ الاعترافُ بفضله وعلمه، وعدمُ التطاول عليه والزعمِ بمضاهاته، وعزوُ الفائدة المستفادة منه إليه، ودوامُ ذكره وشكره، واحترامُ أقواله واختياراته، وقال العلامة ابنُ الأزرق الغرناطي: "يتعين الإعراضُ عن المتعلِّم متى كان فاقدَ أهلية التعليم، أو المذاكرة، يعتقدُ في نفسه أنه فوق المعلِّم له، أو المُذاكر، وإلى ذلك يشيرُ صالح بن عبدالقدوس بقوله:
وإنَّ عناءً أنْ تفهِّم جاهلًا ... فيحسب جهلًا أنه منكَ أفهمُ" .
وفي تراثنا مواقف جميلة رائعة تدل على عمق التديُّن، وسعة العقل، وسلامة النفس، وعظيم الإنصاف، من العلماء الأجلاء تُجاه شيوخهم، ومِن ذلك ما جاء عن هؤلاء:

-الإمام الفرّاء (ت: 207):
جاء عنه قال: قال لي رجلٌ: ما اختلافُك إلى الكسائي وأنت مثلُه في النحو! فأعجبتني نفسي، فأتيتُه فناظرتُه مناظرة الأكْفاء، فكأني كنتُ طائرًا يغرفُ بمنقاره من البحر .
***
-أحمد ‌بن ‌المُعَذَّل بن غيلان بن الحكم، أبو العباس العبدي البصري المالكي الفقيه المتكلِّم (ت بين 231-240):
قال ابنُ خلكان: سُئل أحمد بن المعذل فقيل له: ‌أين ‌لسانُك مِن لسان أستاذك عبدالملك؟ فقال: كان لسانُ عبدالملك إذا تعايا أحيى مِن لساني إذا تحايا.
وقال أحمد بن المعذل: كلما تذكرتُ أنَّ الترابَ يأكل لسان عبدالملك صغرت الدنيا في عيني .
وعبدالملك هو ابن عبدالعزيز ابن الماجشون (ت: 213).
***
-الإمام أبو بكر الباقلاني (ت: 403):
قال القاضي تاج العلماء أبو جعفر السمناني: سمعتُ القاضي لسان الأمة أبا بكر بن الطيب يقول -وقد قِيل له: كلامُك أفضلُ وأبينُ مِن كلام أبي الحسن الأشعري رحمه الله-: واللهِ إنَّ أفضل أحوالي أنْ أفهمَ كلام أبي الحسن .
***
-الإمام أبو الحسن علي بن محمد المَعافري القروي المعروف بابن القابسي (324-403 بالقيروان):
"سُمِعَ يقول أولَ جلوسه للمناظرة بإثرِ موتِ شيخه أبي محمد عبدالله بن أبي هاشم التجيبي:
‌لعمرُ ‌أبيك ما نُسِبَ المُعلى … إلى كرَمٍ وفي الدنيا كريمُ
ولكنَّ البلادَ إذا اقشعرتْ … وصوّحَ نبتُها رُعِيَ الهَشيمُ
ثم بكى حتى أبكى القومَ وقال: أنا الهَشيم أنا الهَشيم، والله لو أنَّ في الأرض خضراء ما رُعِيتُ أنا" .
***
-الإمام الفقيه الأصولي أبو إسحاق الإسفراييني (ت: 418):
قال الشيخ أحمد العريماني: سمعتُ الأستاذ أبا إسحاق يقول: كنتُ في جنب الشيخ أبي الحسن الباهلي كقطرةٍ في البحر، [و] سمعتُ الشيخَ أبا الحسن الباهلي قال: كنتُ أنا في جنب الشيخ الأشعري كقطرةٍ في جنب البحر .
***
-الإمام أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي الأصل المستظهري الشافعي (429-507):
قال ابنُ خلكان: "ذكرَه الحافظُ عبدالغافر الفارسي [ت: 529] في "سياق تاريخ نيسابور" ... وتولى التدريسَ بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد، سنة أربع وخمس مئة إلى حين وفاته، وكان قد وليها قبله الشيخُ أبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر ابنُ الصباغ صاحب "الشامل"، [وهما من شيوخه] وأبو سعد المتولي صاحبُ "تتمة الإبانة"، وأبو حامد الغزالي، فلما انقرضوا تولاها هو. وحَكى لي بعضُ المشايخ مِنْ علماء المذهب أنه يوم ذَكر الدرسَ، وضع منديلَه على عينيه وبكى كثيرًا، وهو جالسٌ على السُّدة التي جرتْ عادةُ المدرِّسين بالجلوس عليها، وكان ينشد:
خلت الديارُ فسدتُّ غيرَ مسوَّدِ … ومِنَ العناء تفردُّي بالسُّؤددِ
وجعل يردِّدُ هذا البيت ويبكي .
وهذا إنصافٌ منه واعترافٌ لمن تقدَّمه بالفضل والرجحان عليه، وهذا البيتُ مِنْ جملة أبيات في الحماسة".
***
-الإمام عبدالقادر البغدادي (ت: 1093) تلميذ الإمام الشهاب الخفاجي المِصري:
"حكى الفاضلُ مصطفى بن فتح الله قال: قلتُ له لما رأيتُه مِن سعة حفظه واستحضاره: ما أظنُّ هذا العصرَ سمح برجلٍ مثلِك! فقال لي: ‌جميعُ ‌ما ‌حفظتُهُ (قطرةٌ) مِنْ (غدير) الشهاب، وما استفدتُّ هذه العلوم الأدبية إلا منه" .
***
-الإمام أبو الثناء الآلوسي (ت: 1270):
قال في تفسير قوله تعالى: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) [البقرة: 30]:
"وقيل: استفهامٌ محضٌ حُذِفَ فيه المعادلُ -أي أتجعل فيها مَن يفسد أم تجعل مَن لا يفسد-. وجعله بعضُهم من الجملة الحالية -أي أتجعل فيها كذا ونحن نسبح بحمدك أم نتغير-، واختارَ ذلك شيخُنا علاءُ الدين الموصلي -روَّح الله تعالى روحَه-، والأدبُ ‌يُسْكتني ‌عنه" .
***
-العلامة الشيخ أبو الخير الميداني الدمشقي (ت: 1380):
جاء في ترجمته بقلم تلميذه الأستاذ الشيخ محمد مطيع الحافظ أنَّ مِن وفائه لشيوخه "أنه كان يُكثرُ مِنْ ذكرهم في المجالس، ويدعو لهم، ويعدِّدُ مناقبهم، ويقول مخاطِبًا جليسَه: إذا أردتَّ البركة في العلم فأسندْ ما تقوله ممّا سمعتَه عن شيوخك إليهم لتعمَّ البركة، ويحصل القبول.
وطالما سمعناه يقول: قال الشيخُ سليم، قال الشيخُ عيسى، ولم أسمعه مرة قال: أنا أرى، أنا أقول، بل يقول: قال الشيخ سليم، وقال الشيخ عيسى" .
والشيخ سليم هو المسوتي (ت: 1324)، والشيخ عيسى هو الكردي (ت: 1331)، العالمان الصالحان الكبيران.
وهذه سمةُ العلماء المُربِّين، وعلى هذا درجوا، ومنهم الأستاذان الشيخان الشيخ محمد زهير الناصر والشيخ محمد عوامة -حفظهما الله تعالى-، فما جلسنا إليهما مرةً إلا وسمعنا الكثيرَ الطيبَ المباركَ من حديثهما عن شيوخهما.
***
وبعدُ فقد ذَكر الإمامُ بدر الدين ابن جماعة (ت: 733) في كتابه "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم" ثلاثة عشر نوعًا من آداب الطالب مع شيخه وقدوته ، وكلها مهمة فلتُنظر، لاسيما الأدب الثاني.
***


أدب الدرس. أدب النفس. العلاقة بين الطالب والأستاذ


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


جزاكم الله خيرا.


نعم والله يا استاذنا الفاضل. هو أدب الطالب مع استاذه وهو علامة تعرف بها العالم الحقيقي ممن يدعي العلم . وفي هذا الزمان بتنا نسمع ونرى أدعياء العلم في اليوتيوب ومواقع التواصل يبدأون كلامهم بمدح أنفسهم وكيف أن ما يقدمونه أفضل وأصح مما قال به العلماء السابقون. ولكن سرعان ما يكتشف الناس مقدار جهلهم وقلة إخلاصهم.


نعم فضيلة الدكتور عماد سلمك الله العلم مرتبط بالأدب، ولا ينفصلان.