مدونة عبدالحكيم الأنيس


نتائج بحث "التراث وإشكالية النضج والاحتراق" وتوصياته

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


11/06/2022 القراءات: 803  


النتـائـج
بعد هذه الجولة التراثية أخلص إلى النتائج الآتية:
1- ظهرت المقولة التي تتحدث عن النضج والاحتراق في النصف الثاني من القرن الثامن، ولا يُعرف قائلها، ولا منزلته في العلم، ولكنها مصرية المنشأ، وقد ذكرها مؤلفون في مصر، وعنهم أخذها أهل الشام، ولم تتعد هذين القطرين، وبلغ عدد الذين ذكروها أو تكلموا عليها أربعة عشر مؤلِّفًا، وأولهم الزركشي، وهو مصدرها الأساسي. وقد ذكروها مؤيدين، ولم ينازع فيها سوى طاهر الجزائري. وهي تتحدث عن ستة علوم شرعية وعربية، ولا تتعرض لباقي العلوم والآداب والفنون.
2- إن هذه المقولة من قبيل الملح التي تُستحسن في المحاضرات والمحاورات ولا يستقصى البحث فيها، أي لا ينظر إليها نظرة حدية جدية.
ويبدو أن العلماء فهموها على أنها كذلك، ولهذا لم تمنعهم من الاشتغال بأي علم من العلوم الستة التي ذكرتها، بل تركت هي الباب مفتوحًا في النوعين الأول والثاني أصلًا، وكان لها أثر إيجابي لدى عدد من العلماء، وما تزال.
ومما يؤيد كونها ملحة أنها لا تذكر سوى ستة علوم، ولا تتعرض لكثير من العلوم والفنون والآداب، ولعل قائلها اقتصر على العلوم الستة لأنها تقع في دائرة اهتمامه وتخصصه، - ولنا أن نستدل بذلك على هويته -.
3- يتبين لنا من خلال استعراض أقوال العلماء أن النضج والاحتراق مصطلحان، قصد بهما الدلالة على مراحل تاريخ العلم، وأن الاحتراق كلمة تشخيص، وليست ذمًا، ولا يراد بها الغض والنيل، فهي ليست على ظاهرها، وإلا فالاحتراق مفسد للأشياء كما قال الطحطاوي.
4- الحكم على علم بالنضج، أو النضج والاحتراق لا يلغي أبدًا دراسته والإفادة منه، واستعماله وتطبيقه، وإنما قد يعني وصوله إلى مرحلة معينة من الكمال، أو الزيادة على الكمال، وهذا من وجهة نظر القائل، التي يمكن أن تخالفها وجهة نظر أخرى.
وعلى هذا لا يمكن لأحد أن يحتج بها على أنها اعتراف من أهل التراث باستنفاد أغراض تراثهم.
5- إن العقل البشري -وهو هبةٌ إلهية عظيمة قادر بما أودعه الله من طاقات، ومنحه من ملَكات، وهيأ له في كل زمان ومكان من وسائل وغايات، على الإبداع والتجديد.
وليس العقل المسلم بِدْعًا من ذلك، وما أنتجه خلال القرون حتى الزمن القريب أعظم شاهد على ذلك.

التوصيات
1- عدم الانشغال بالحداثيين الذين يريدون إلغاء التراث، وتجنُّب الدخول معهم في معارك جانبية، فإن هذا سيشغلنا عن مهامنا وهي مهام كبيرة، وما زال أمامنا الكثير مما ينبغي أن يُعمل.
2- أوصي أن يُهتم بمعهد المخطوطات العربية، وأن يركز المعهد المذكور على مهمته الأولى، وهي الاشتغال بالمخطوطات حصرًا وتوصيفًا وتعريفًا، ورعاية وحماية، وتحقيقًا ونشرًا.
3- لدينا قضايا مهمة تستلزم عملًا جادًا دؤوبًا طويلًا:
- منها: حصر المخطوطات مجهولة المؤلف في مكتبات العالم، ومحاولة الكشف عن مؤلفيها، وهذا - لو تم - سيكون إنجازًا ضخمًا في غاية الأهمية والفائدة للعلم وتاريخه، وللعلماء والباحثين والدارسين.
ومنها: حصر المؤلفات المنسوبة إلى غير مؤلفيها خطأ وعمدًا، وإخراج ذلك في معجم شامل، والنسبة المزورة مشكلة تؤرق المعنيين، وتسيء إلى التراث، وتربك الدارسين.
ومنها: إيلاء (فهارس المخطوطات) عناية خاصة، مراجعةً وتدقيقًا وتصحيحًا ونقدًا، فإن الخطأ فيها يقود إلى أخطاء وإلى إحباطات، وخسارات.
ومنها الاهتمام بإصدار سلسلة جديدة تتناول حصر مؤلفات العلماء الكبار، كل على حدة، وبيان المخطوط والمطبوع والمفقود منها، وتحديث ما صدر من قبل كـ(مؤلفات ابن سينا) و(الغزالي) و(ابن الجوزي) وهكذا.
ومنها: حصر الكتب التي طبعت ناقصة، والعمل على إخراجها كاملة بما اكتشف من نسخها، والبحث عن نسخ كاملة لسائرها.
ومنها: حصر الكتب التي طبعت عن نسخ مبعثرة الأوراق، وإعادة إخراجها مرتبة الأوراق بالإفادة من جهود النقاد والدارسين والنسخ الخطية المكتشفة.
ومنها: حصر الكتب التي حذف منها شيء، أو أقحم فيها شيء، من النساخ والوراقين والناشرين، وإعادة إخراجها متمَّمةً منقحةً.
ومنها: الاهتمام بالتراث الإسلامي المكتوب باللغات الأخرى كالفارسية والتركية، والعمل على ترجمته – ومنه ما هو مترجم عنها – فإنه متمم للتراث العربي، وقد نجد فيه ما نفتقده عندنا.
ومنها التفكر بمشروع علمي معجمي كبير يستقصي كل ما ألف لدى المسلمين في العلوم والفنون والآداب.
ومنها: العمل على إيجاد مرجعية كبرى تتبنى جمع التراث الإسلامي كله في مكان واحد، أصولًا ومصورات.
ومنها: تفعيل دور الرقابة على التراث وما ينشر منه، والتعريف به، ورصده، والتاريخ له، ونقد ما يجب أن يُنقد، وإتمام ما به نقص، وهكذا.
ومنها: العمل على تصوير كل أوراق المخطوطات المفككة المفرقة تصويرًا رقميًا، وإتاحتها للباحثين للنظر فيها وفحصها، فمن الممكن إعادة تكوين كتب منها، والتعرف إلى بقايا كتب ضاعت.
ومنها: العمل على حصر الكتب التي تفرقت أجزاء نسخها في المكتبات والبلدان.
ومنها: العمل على حل مشكلة غياب تراجم لأعلام كبار، لهم في التراث اسم عريض، وأثر عظيم.
ومنها: العمل على تأليف معجم في علم جرح الكتب وتعديلها، لإظهار جهود العلماء الرائعة في التعامل مع تراث من سبقهم، وصدقهم في حب العلم وخدمته والإخلاص له.
ومنها: الاهتمام الجاد بدراسة أنماط التأليف لدى المسلمين، ومن ذلك المتون المنظومة والمنثورة، والشروح، والحواشي، والاختصار، وغير ذلك وهذه الأنماط لبت حاجات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وكان لها حضور في عمليات التدريس والتثقيف، وقد يحكم الآن عليها حكمًا ظالمًا بجرة قلم!.
ومنها: تشجيع تحقيق التراث ونشره، فعلى مقدار ما نحقق وننشر ونقرأ نكتشف ذاتنا وتاريخنا، ونفهمها فهمًا أفضل، وندرسهما دراسة أدق. وما يزال حجم المعلومات الغائبة عنا كبيرًا جدًا
ويا حبذا وضع خطط منهجية لهذا النشر، إما على المؤلفين، وإما على القرون، كأن يتبنى نشر أعمال عالم معين كاملة، وبعده يؤخذ غيره، أو يتبنى نشر ما وصل إلينا من مخطوطات حسب القرون.
ويمكن أن يتعاون معهد المخطوطات في ذلك مع الجامعات ومراكز البحوث العربية والإسلامية وفق خطط يعدُّها هو، ويسعى إليها.


التراث. العمل المطلوب


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع