مدونة د. عامر ممدوح


توظيف التجربة الذاتية في تجويد النص التاريخي

د. عامر ممدوح | Dr. Aamer Mamdoh


29/04/2019 القراءات: 3414  



يظن البعض مخطئا أن النص التاريخي الذي يقدم للقراء يجب ان يكون محايدا ومتخلصا من ذاتية كاتبه ، وهو - فضلا عن خطأ هذا الظن والاعتقاد - طلب أشبه بالمستحيل ، لان النص التاريخي يمثل محاولة المؤرخ لنقل الماضي الينا ، وبالتالي هو نتاج فهم ذاتي أولا ، وانعكاس لفكر وانتماء كاتبه ثانيا ، ونتاج امتزاج مستمر للعقل والروح والشعور ثالثا . شئنا أم أبينا .. هذه هي الحقيقة . ولا اعتقد أن المطلوب تحول المؤرخ إلى إنسان آلي يسجل الاحداث وينقلها كما هي ، ولكن المطلوب الا تطغى الذاتية على حساب الموضوعية ، او تصيب المعلومة بالتشوه عبر ارغامها قسرا لتقول ما لا يجب ان يقال . ليس المطلوب وأد عقل المؤرخ ابدأ ، وسيظل التاريخ ساحة فسيحة تتقبل مناقشة كل الأفكار ما دامت تأتي في سياقها الصحيح ، وبشكلها العلمي المتفق عليه . بين يدي اللحظة ، 3 نصوص كتبها أصحابها الكبار لحظة زيارة قصر الحمراء في غرناطة ، وهي نصوص على قدر كبير من الاهمية ، ليس لجودتها الفنية فحسب ، وانما لانها مزجت الماضي بالحاضر ، والمعلومة بالعاطفة ، ووظفت - ايجابيا - مشاعر الانتماء لذلك المجد الذي ضاع ! . كما ان هذه النصوص الثلاثة منحتنا باسلوب أخاذ ، ونبض فؤاد ، معلومات على غاية من الاهمية ، ويمكن للباحث الركون اليها والاعتماد عليها بارتياح كونها نقلت عن مشاهدات مؤرخين كبار موثوقين . اذن يمكن للتجربة الذاتية المنضبطة بقواعد منهج البحث التاريخي ، ان تكون سبيلا لتجويد النص ومنحه الرصانة والفخامة المطلوبة في آن واحد ، ولن تكون الا عامل اثراء واستزادة لا يمكن الاستغناء عنها . ولنقف عند هذه النصوص لنرى مصداق هذا الكلام : (النص الأول ) : " بين هذه الجدران الصامتة ، التي يكاد الأسى يرتسم على زخارفها العربية ونقوشها الإسلامية ، يضطرم الخيال بهذا الفكر وامثالها ، بل يكاد الدمع يغالبك وأنت تجوش خلال هذه الأبهاء الملوكية الفخمة ، وتقرأ في كل ركن منها تلك العبارة المؤسية ، التي لبثت شعار بني نصر ملوك غرناطة حتى انتهاء دولتهم : ولا غالب إلا الله " . المصدر : محمد عبد الله عنان ، الآثار الأندلسية ، ص 188 ـ 189 . (النص الثاني ) " كلما وقفت في قاعة بني سراج أو في قاعة الأختين خيل إلى انني داخل صندوق مجوهرات أو علبة حلوى . في احيان اخرى أحس أنني قد اقتحمت مخدعاً على صاحبة ، وأنني لهذا ينبغي أن أبادر بالخروج . يستولي علي هذا التوقير الذي نشعر به ـ معاشر العرب ـ لحُرم الناس ، فهذه مخادع نوم ومجالس راحة لم يخطر ببال صاحبها أنها ستكون في يومٍ ما مكاناً عاماً ! المخادع خالية ، ولكن الخيال يكمل الصورة : هنا كانت وسائد ومساند تدور مع الجدران . هذه الأرض كانت تغطيها السجاجيد ، وهنا ـ عند الشرفات التي تطل على الحديقة ـ كانت أرائك . إذا أغمضت عينيك أحسست وكأن الحياة تدب فيما حولك : نساء الحريم غاديات رائحات ، همسهن الرقيق يملأ جوانب القاعة ، ويتصاعد نحو هذا السقف المثقل بالزخرفة ويضيع هناك كما يضيع كل همس. ويسود الصمت ! " . ( المصدر : د.حسين مؤنس ، رحلة الأندلس حديث الفردوس الموعود ، ص 182 ـ 183) . (النص الثالث ) : " ترقد الحمراء فوق رابية عالية شامخة بمبانيها العتيدة ، المتطلعة بابراجها تتوج تلك الديار ، تربض فوض هضبتها نبيلة ذليلة وحسناء أسيرة لاهثة ، وكأنها تمد اليك يدها لتقوم وتصرخ بك فتكسر عنها القيد وإلا فيأسرك رجاؤها بالبقاء عندها للمناجاة والمؤاساة والمؤانسة والاستعداد وكذا الاستمداد . ولربما تشعر بها جدة غير عاجزة قاومت آثار الشحوب محافظة على سر دفين تسرده لك أقاصيص ناعمة مؤثرة فتصغي إلى انسيابها الذي لا يخلو من تعثر أو تفكر ، وتكاد بصعوبة لا تفك نفسك عنها أو تفكها عنك ، وحين تستطيع كأنك تريد حمل بعض أطرافها من حجر او شجر او زهر ، تسترده او تستنقذه أو تهمز به رمزاً على تلك الصلة ، وذلك اللقاء ، ماثلاً للعيان ! " ( المصدر : د. عبد الرحمن الحجي ، مع الأندلس لقاء ودعاء ، ص 26 ـ 27 ).


منهج البحث التاريخي ، الأندلس ، قصر الحمراء ، الذاتية ، الموضوعية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع