مدونة عبدالحكيم الأنيس


كان وكان: إبداع العامة والخاصة

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


14/10/2022 القراءات: 1153  


قال أبو طاهر السِّلفي (ت: 576) في «معجم السفر» (ص 4-5):
«سمعتُ أبا نصر أحمد بن محمد بن علوان الآمدي بضمير على مرحلة من دمشق يقول: حضرت في دعوة بالعراق وكان فيمن حضر فقيرٌ واحدٌ فغنى القوّال بعد غنائه المعهود صوتًا من الزكنشة، وهو:
غَسَلْتُ لَهُ طُولَ اللَّيْلِ … فَرَكْتُ لَهُ طُولَ النَّهَارِ
مَضَى يُعَاتِبُ غَيْرِي … زَلِقٌ وَقَعَ فِي الطِّينِ
فصاح الصوفي وقال: بئس ما فعل. وقام يتواجد ويبكي إلى أن أبكانا كلنا وقلنا: مَن كانت له عبرة ففي كل شيء له عبرة».
وقال المحقق د. شير محمد زمان (ص: 469): "لا تصح هذه الأبيات في أي بحرٍ من العروض، ولعلها من الشعر الشعبي".
***
قلت: البيتان من الشعر المعروف بـ "كان وكان"، وهو فنٌّ شعري شعبي نشأ في العراق، وعُرف في مصر بالزكلشة.
وصحة اللفظ والضبط هكذا:
غسلْتُ لوْ طُول الليلْ … فَرَكْتُ لوْ طُول النهارْ
مضى يُعاقب غيـرِي … زَلقْ وَقَعْ في الطِّينْ
قال أبو الحسن على بن موسى بن سعيد المغربي الأندلسي (ت: ٦٨٥) في «المقتطف من أزاهر الطرف» (ص: 239):
"الخميلة الحادية عشرة المشتملة على ملح كان وكان ومواليا، كلاهما مخصوص بأهل العراق، وأكثر ما يأتي بلفظ العامة، ويعرفونه أيضًا البطائحي لتولّع أهل البطائح به، وأكثر ما حفظتُه من الملّاحين في دجلة، وهو من العروض المجتث، ولا يخرجون به عن طريقة واحدة.
غسلت لوْ طول ليلي … فركت لوْ طول النهار
خرج يعاقب لغيري … زلق ‌وقع ‌في ‌الطّين
هذا عندهم بيتٌ كاملٌ على نوع تربيع الدوبيت".
***
وقال ابنُ الجوزي (ت: 597) في «صيد الخاطر» (ص: 162-163):
«وما زال المتيقظون يأخذون الإشارة مِن مثل هذا، حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامةُ ويلقبونه بـ "كان وكان"، فرأيتُ بخط ابن عقيل، عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع امرأةً تنشدُ:
غسلت لو طول الليل … فركت لو طول النهار
خرج يعاين غيري … زلق وقع في الطين
فأخذ من ذلك إشارة معناها: يا عبدي! إني حسَّنتُ خلقك، وأصلحتُ شأنك، وقومتُ بنيتك، فأقبلتَ على غيري، فانظرْ عواقب خلافك لي!
وقال ابنُ عقيل: وسمعتُ امرأةً تقولُ من هذا "الكان وكان"، وكانت كلمة بقيتُ في قلقها مدةً:
كم كنت بالله أقل لك … لذا التواني غايله
وللقبيح خميره … تبين بعد قليل
قال ابنُ عقيل: فما أوقعَه من تخجيل على إهمالنا لأمورٍ غدًا تبين خمائرها بين يدي الله تعالى!".
***
‌‌وقال القفطي في ترجمة الأديب حسن بن أسد الفارقي (ت: 487) في «إنباه الرواة» (1/ 332-333):
"ومِنْ كوهنته ما حَكى عنه أهلُ بلده، وهو أنه كان يجلسُ في دهليزٍ له إلى جانب شبّاك يُشرف على الطريق المسلوك، فسمع ليلةً رجلًا سكران يُنشد نصف بيت من "الكان وكان"، وهو:
غسلت لو فركت لو ... ما جا إليّ ولا التفتْ
وانتظر منه ابن أسد إتمام البيت، فلم يتمّه، وسار في قصده، فخرج ابنُ أسد يخبُّ في الطين والظلمة، والمزاريبُ على رأسه، وهو يسيرُ خلفه يسمعُ تمام البيت، فسار طويلًا. واتفقَ أن السّكران زلق ووقع، فقال عند وقوعه:
مشيه يعجب وخطوه ... زلقْ وقع في الطينْ
فقال له: يا ظالم! كنتَ قلتَ هذا مِنْ قريب. ثم رجع".
***
ولابن الجوزي كتاب سماه "لقط الجمان في كان وكان". وقد عُنيت به، والحمد لله، قال في أوله:
"الحمدُ لله حمدًا كثيرًا على التوفيقِ للمحامد، وأشهدُ بوحدانيته شهادةً صادرةً عن أصحِ العقائد، وأصلِّي على رسوله محمدٍ المبعوث بالنصائح لإزالة المقابح والمفاسد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يومِ ربحِ المؤمنِ، وخُسرانِ الجاحد.
وبعدُ:
فقد رأيتُ عوامَّ بغداد يقولون شعرًا يسمُّونه "كان وكان"، يستعملون فيه الكلمات العاميّة، ولا يلتفتون إلى مقتضى العربيّة، لأنه ليس مِنْ لغتهم، فرأيتُ في ذلك من المعاني اللطيفة ما أعجبني، لأنَّ الألفاظ أجسادٌ والمعاني أرواح، وقد كان القدماء يسمعون بيتَ شعرٍ فيأخذون من معناه ما لم يُرده القائل، ويسمعون كلمةً عاميةً فيأخذون مِنْ مقصودها ما يزعجهم، لأنَّ المعاني كانت تطربهم لا الألفاظ.
قال الجُنيد: دفع إليَّ سَري رقعةً فقال: انظرْ ما فيها، فنظرتُ فإذا فيها مكتوب:
أبكي وما يدريكِ ما يُبكيني ... أبكي حذارَ أنْ تفارقيني
وتقطعي حبلي وتَهجريني
ومرَّ الجنيدُ في بعضِ دروبِ بغداد وإذا بمنشدٍ وهو يُنشِد:
منازلٌ كنتَ تهواها وتألفُها ... أيامَ أنتَ على الأيام منصورُ
فبكى الجنيد بكاءً شديدًا وقال: ما أطيبَ منازلَ الألفة والأنس، وأوحشَ مقامات المخالفة! لا أزال أحنُّ إلى بدو إرادتي، وحدة سعيي.
وسمع الوليد بن عتبة قائلًا يقول:
يا مَنْ يعزُّ علي ... ما لي أهونُ عليك!
فصاح وبقي أربعين يومًا مريضًا.
وسمع آخر حارسًا يقول:
واحسرتي كم أداريكم بتعثيري ... مثل الأسيرِ بلا حلٍّ ولا سيرِ
ما حيلتي في القضا قد ضاعَ تدبيري ... لمّا شكلتُ جناحي قلتَ لي: طيري ...
وسمعَ مَنْ يقول: إيش خبأنا للصيام. فجدَّ في الصوم.
وجاز آخر على طرّاف وهو يُنادي: لا كان الرَّدي ولا مَنْ يبيعُه. فتيقَّظَ للإخلاص.
وإذا بآخر يُنادي على مشمش: لو احتمل البقاءَ ما أرخصتُهُ. فتنبَّهَ على قِصَرِ العُمُر.
قال ابنُ عقيل:
مِنْ أكثر ما يفوِّتُ الفوائدَ تركُ التلمُّح للمعاني الصادرة عمَّنْ ليس بمحلٍ للحكمة، أترى يمنعني مِنْ أخذِ اللؤلؤةِ وجداني لها على المزبلةِ؟
قال:
ولقد سمعتُ مِنْ هذا "الكان وكان" كلمةً بقيتُ في قلقها مدةً، وهي أنَّ امرأةً كانتْ تقولُ على شغلها:
كم كنتْ بالله أقل لكْ ... لذا التواني غايلة
وللقبيح خميره ... تبين بعد قليلْ
قال:
وخرجَ شيخُنا أبو القاسم بن برهان وامرأةٌ تغسلُ الدار بدرب رباح تقول:
غسلتْ لو طول الليل ... فركتْ لو طول النهارْ
خرج يعاقب غيري ... زلقْ وقعْ في الطينْ
فأخذَ منه معنىً أبكاه، وقال: يستحقُّ مَنْ استعملَ نعمةَ المُنعم فيما يكره أنْ يسلبها منه.
قلتُ:
ولما كانت منزلة "كان وكان" هكذا أعجبني، فقلتُ مِنْ جنسه، ولصقتُ به كلماتٍ من الوعظ، وجعلتُ هذا الكتاب موئلًا له، واللهُ الموفِّق، وهو ثمانية وعشرون فصلًا".


فن الكان وكان


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع