الفقه السياسي والإفتاء (تأملات في الفقه السياسي)
د. طه أحمد الزيدي | Dr. TAHA AHMED AL ZAIDI
15/10/2022 القراءات: 1219
إنّ الإفتاء السياسي يتأثر بأمرين متلازمين:
الأول: علاقة الدين بالسياسة من حيث إدراك النص الشرعي وفهم الواقع، وتحقيق الموازنة في المصالح واعتبار المآلات المتعلقة بالقضايا السياسية، والآخر: علاقة العلماء بالحكام لكونهما المرجعية التأصيلية للمسلمين بعد المرجعية الاصولية العليا المتمثلة بالكتاب والسنة.
ومن المبادئ التي ينبغي مراعاتها ضمن هذه المسألة حتى لا تتخذ ذريعة في دعوى فصل الدين عن السياسة، هو التمييز بين الفصل والتخصص، فمراعاة التخصص بالفقه السياسي لا يعني الفصل بين الدين والسياسة.
وبناء عليه فإن الرجوع في الإفتاء السياسي يكون لمن عُرف بالفقه السياسي، وهذا من باب مراعاة التخصص، وهي تعد منقبة للفقه الإسلامي، وقد عرف التخصص من لدن رسول الله بقوله: (وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ). اخرجه الترمذي
وقد تنبه الفقهاء إلى مراعاة التخصص الفقهي بل وفي مسائل منه، فقد ذكر ابن حمدان الحراني في تقسيمه للمجتهدين، ومنهم: مجتهد في نوع من العلم ومجتهد فِي مَسْأَلَة مِنْهُ أَو مسَائِل، ويقول ابن القيم في اعلام الموقعين: " الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره، أو في باب من أبوابه، كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد أو الحج، أو غير ذلك؛ .. له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه.. هو الصواب المقطوع به".
وإن مما يشخص على الإفتاء السياسي، في بعض الدول، أنه يفتقر في أغلبه إلى وجود فقهاء متخصصين بالسياسة الشرعية المعاصرة أو عدم العناية بهم في دور الإفتاء والمجامع الفقهية أو غير مرغوب بهم فيه لضعف الاستقلالية، وكذلك قلة الدراسات التأصيلية المتخصصة بهذا المجال، وبعض من يتصدى له يقرّ أنه لا باع له في السياسة؛ ولذا تأتي الفتاوى إما مترددة يعتريها التغيير في مدة وجيزة، أو مضطربة سرعان ما يعتذر عنها من تصدر عنه بعد ظهور قصورها في قراءة الواقع، أو مرارة ثمرتها في تحصيل الحقوق الاساسية لأبناء الشعب أو مكون أصيل أو أقلية مسلمة.
الفتوى السياسية المستقلة
وهي إما أن تكون من شخصية علمية أو من جماعة علمائية أو فكرية أو تنظيمية، وقد تتخذ الفتوى طابعا عدائيا مع السلطان، أو طابع المناصحة، وقد يقبل السلطان هذه الفتوى ويرضخ لها، وقد يرفضها وينكل بمفتيها.
ونؤكد أن الفتاوى السياسية المعارضة لا تكسب مشروعيتها من هذه المعارضة وإن نالت قوة وشهرة، وإنما المشروعية تأتي من أهلية المفتي السياسي، وانضباطها بالمعايير الشرعية نصا ومقصدا وواقعا ومآلا.
فالمناصحة أصل والمفاصلة استثناء، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»، اخرجه مسلم، وجعل النبي () من شروط المواطنة الحقة للمسلم وانضمامه إلى الرعية الإسلامية قول الحق والمجاهرة به ولاسيما العلماء؛ سعياً لإحقاقه في المجتمع، فعن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله () على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ..، وعلى أن نقول الحق أينما كان ولا نخاف في الله لومة لائم" متفق عليه، كما عدّ رسول الله () ترك المسلم الإدلاء برأيه، فيما يرى أنه الحق، أمراً محتقراً، فقد روي عن النبي () أنه قال: "لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يحقر أحدنا نفسه، قال يرى أنه عليه مقالاً ثم لا يقول به، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيَّ كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى" اخرجه ابن ماجه، وقد أكد النبي () على حرية التعبير حتى في مواجهة السلطة وعدها جهاداً بل من أفضل مراتبه، لقوله عليه الصلاة والسلام: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " اخرجه ابن ماجه.
والتوازن بين المناصحة والمفاصلة يعتمد على قوة شخصية المفتي ومدى مشروعية السلطان وجبروته، والمصلحة والمفسدة المترتبة على الفتوى، وبناء عليه تنزل النصوص وتصنف المواقف، إن رسالة المفتين هي تحريك المواقف السياسية ضمن المعيار الشرعي وأي انحراف سياسي في الفتوى هو ضلال عن المقاصد الكبرى والقواعد الكلية للإسلام.
فبعض علماء السلف كان ينادي بعدم الدخول ومخالطة السلاطين، خشية محاباته في فتوى او موقف على حساب الحق والشرع، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه, قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَمَوَاقِفَ الْفِتَنِ" , قِيلَ: وَمَا مَوَاقِفُ الْفِتَنِ؟ قَالَ: "أَبْوَابُ الْأُمَرَاءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ وَيَقُولُ مَا لَيْسَ فِيهِ"، وقال أناس لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلطاننا، فنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: "كنا نعدها نفاقا" اخرجه البخاري، وقال أبو ذَرٍّ رضي الله عنه: "لا تَغشَ ذا السُّلطان، فإنك لم تَغشَ من دنياهم إلا أصابُوا من دينك أفضل منه".
وقد يتزلف متعالم أو عالم طامع أو متساهل، بالفتاوى المسيسة إلى اصحاب السلطة، أو يتبنى المعارضة الإفتائية ليس لإظهار حق أو نصح سلطان وإنما لأغراض شخصية او فئوية أو حزبية، وبناء عليه فليس تولي المفتي منصبا منقصة أو يؤسس للشبهة في فتاواه، وليست الاستقلالية أو المعارضة لذاتها منقبة تزكي صاحبها وتصوب فتاواه ومواقفه، وانما المعتمد في التصنيف أهلية المفتي وشرعية الفتوى، وفي الوقت نفسه ينبغي إدراك أن التوسعة على السلطان في الفتوى ما دامت تتمتع بالمعايير الشرعية هو من مقاصد الشريعة، يقول القرافي: "واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع، بل تشهد له الأدلة.. وتشهد له أيضا القواعد.
الافتاء السياسي- الفقه السياسي- المفتي المتخصص- الفتوى المسيسة- السياسة الشرعية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة