مدوّنة الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب القباطي


التّكامل بين العلوم النّقليّة والعقليّة (2)

الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب | Associate Professor Dr. Muneer Ali Abdul Rab


02/05/2022 القراءات: 3235  


هناك اتّصال وثيق وتكامل معرفيّ بين العلوم الدّينيّة والدّنيويّة، لا يستغنى عن علم منها، لكن كما أسلفنا أنّ العلوم النّقليّة (الدّينيّة) هي المقصودة لذاتها، والعلوم العقليّة (الدّنيويّة) خادمة لها، ولا يعني هذا التّكامل -أيضًا- أنّها جميعها في مرتبة واحدة من حيث علاقتها بالحقيقة أو من حيث أهمّيّتها وأولويّتها، فتكامل أعضاء الجسم البشريّ في أدائها لوظائفها، لا تجعل أهمّيّة أطراف الجسم كأهمّيّة القلب أو الدّماغ مثلاً. وكذلك الأمر بالنّسبة للعلوم النّقليّة والعقليّة؛ فالله -تعالى- أتاح المعرفة للإنسان من خلال الوحي والكون، وزوّد الإنسان بالعقل والحسّ، فيعمل الحسّ في المصدرين معًا من خلال توظيف أدوات الحسّ في المشاهدة والتّجريب في أشياء الكون وأحداثه وظواهره، وتوظيف الإدراك الحسّيّ لدلالات نصوص الوحي في الخبرة البشريّة.

وأهمّ ما يبيّن الوحدة والتّكامل بين مصادر المعرفة وغاياتها: استعمال لفظ (آية) في القرآن، لتدلّ على العبارة المسطورة في المصحف، وعلى الظّاهرة الكونيّة المنظورة في المجال المادّيّ أو الاجتماعيّ أو النّفسيّ. فعندما يدعو القرآن الكريم إلى السّير في الأرض للنّظر والبحث في بدء الخلق، فكأنَّ الله –سبحانه وتعالى- يربط قصّة خلق الإنسان بما قد يجده الإنسان في علوم الحياة وطبقات الأرض والمستحدثات وأمثالها. وعندما يدعو القرآن إلى السّير في الأرض والنظر في مصائر الأقوام والحضارات السّابقة لأخذ العظة والعبرة، فإنَّ ذلك يعني أنَّ الهداية الّتي يريد القرآن للإنسان أن يحصل عليها تكمن في الجهد المعرفيّ المتمثّل في السّير والبحث، والنّظر في التّاريخ والآثار والأديان المقارنة وعلم الاجتماع وغير ذلك. وبالمثل عندما يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، أي علوم الكون وعلوم النّفس، فإنَّه يبني علاقة التّكامل بين هذه العلوم وعلوم الوحي ((Malkawi, https://wefaqdev.net/art1901.html, 17,08,2014

وقد أكّد هذا التّكامل المعرفيّ بين العلوم العلّامة ابن رشد المالكيّ، حيث قال: إنّ الموجودات إنّما تدلّ على الصّانع لمعرفة صنعتها، وأنّه كلّما كانت المعرفة بصنعتها أتمّ، كانت المعرفة بالصّانع أتمّ، وكأنّ الشّرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحثّ على ذلك، فبيّن أنّ ما يدلّ عليه هذا الاسم إمّا واجب بالشّرع، وإمّا مندوب إليه. فأمّا أنّ الشّرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وطلب معرفتها به، فذلك بيّن في أكثر من آية في كتاب الله -تبارك وتعالى-، مثل قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ ((Al-Quran 2:59، قال: هذا نصّ على وجوب استعمال القياس العقليّ، أو العقليّ والشّرعيّ معًا. وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ ((Al-Quran 7:185، قال: وهذا نصّ بالحثّ على النّظر في جميع الموجودات ((Ibnu Rushd, n.d, 22-24.

وهناك آيات كثيرة تحثّ على النّظر في الموجودات، منها قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ . وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ ((Al-Quran 51:20-21، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ ((Al-Quran 88:17-20، وقوله تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ((Al-Quran 3:191، وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ((Al-Quran 30:8، وغيرها كثير.

قال ابن رشد: واعلم أنّ ممّن خصّه الله -تعالى- بهذا العلم وشرّفه به: إبراهيم-عليه السّلام-، فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ ((Al-Quran 6:75، وإذا تقرّر أنّ الشّرع قد أوجب النّظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقليّ، وإذا تقرّر أنّه يجب في الشّرع النّظر بالقياس العقليّ وأنواعه، كان يجب النّظر في القياس الفقهيّ، فبيّن أنّه إن لم يتقدّم أحد ممّن قبلنا بفحص عن القياس العقليّ وأنواعه، فيجب علينا أن نبتدىء بالفحص عنه، وأن يستعين في ذلك المتأخّر بالمتقدّم، حتّى تكمل المعرفة به ((Ibnu Rushd, n.d, 23-26.

وكذلك أكّد ابن تيميّة (Ibnu Taimiyah, 1411) على عدم وجود التّعارض بين النّقل والعقل، فقال: "فأنزل الله الكتاب حاكمًا بين النّاس فيما اختلفوا فيه، إذ لا يمكن الحكم بين النّاس في موارد النّزاع والاختلاف على الإطلاق إلّا بكتاب منزّل من السّماء، ولا ريب أنّ بعض النّاس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره، وإن لم يمكنه بيان ذلك لغيره، ولكن ما علم بصريح العقل لا يتصوّر أن يعارضه الشّرع البتّة، بل المنقول الصّحيح لا يعارضه معقول صريح قط". قال : "وقد تأمّلت ذلك في عامّة ما تنازع النّاس فيه، فوجدتّ ما خالف النّصوص الصّحيحة الصّريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشّرع".


التّكامل، العلوم النّقليّة، العلوم العقليّة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع