مدونة سعد رفعت سرحت


كافُ النَّمذجة ( أنا كفلان_نحنُ كعراقيين_كجزء من متطلبات)ونحو ذلك

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


24/03/2022 القراءات: 1187  


.

للعربيّة مع حرف "الكاف" وكلمة "مثل"حكايات شيّقة،وبخاصة الكاف،حتى أنّك لو أمعنت النظر في النصوص والشواهد العربية القديمة التي تضمنت الكاف "لغير التشبيه" لرأيت أنَّ فيها معنًى خفيًّا يؤاتي الطباع،اللهمّ نعم قد لا تسطيع التعبير عنه بمصطلح معين:إنّك تريد أن تقول عنه شيئًا ولكن تتردد،وعندئذٍ تستسلم لما ورد عن النحاة والمفسرين،ولا تزيد شيئًا عن كونها إمَّا زائدة و إمّا بمعنى"مثل".


أ تدري ما المعنى الخفي الذي تحسّه في نفسك؟.أو ما المصطلح الذي يدور مضمونه في خيالك ولا تستطيع التعبير عنه؟.


إنّه معنى النمذجة (=من النَّموذج)،وبعبارة أدق:المثال الأعلى الذي يُجرّد من جنس ما من الأجناس،ليكون"نمّونةً"*لأشباهه.


كذلك الحال مع التعبير المعاصر حين تسمع/تقول:(أنا كفلان...) إنك هنا تستسيغ هذه الكاف في أعماقك كيف لا أدري،تأملها مع نفسك وستقرّ بعربيتها في أعماقك.


إلّا أنّك،مع ذلك، تكابر على أنّ هذه العبارة صيغة مقحمة على العربية فرضتها الترجمة،مع أنّ هذه الصيغة حاضرة في لغات كثيرة،فعن نفسي_ككردي!_استسيغهما في كلتا اللغتين.


أعترف ليس لي دليل على أصالة هذه الصيغة بصورتها الحرفية حين تُصحّح عبارة(نحن_ كعراقيين)بعبارة (أخصّ العراقيين)و حين تصحّح عبارة ( كجزء من متطلبات) بعبارة(وهي جزءٌ من متطلبات أو جزءًا من متطلبات)و حين تصحّح عبارة (استقبلت فلانًا كصديق) بعبارة(استقبلت فلانًا بوصفه صديقًا) على أنّ هذه التصحيحات لا تفي بما في نفسك .


ما أريد قوله إنّ هذه الصيغة وإن لم تكن عربيّة بمبناها،فإنّها عربيّة بروحها،إنّنا إذ ننكرها على الصعيد الرسمي فإننا نتقبلها بحاسة مجهولة،وكأنّ فيها قوّةً خفيّة تفرضها على وعينا الممزق بين قوة الرسمي وقوة الذوقي.


وعلى هذا أزعم أننا مع عدم رسميتها نستطيع أن نجعلها مقبولة لو قمنا بتقريب هذه الكاف بمثيلاتها في النصوص القديمة التي أوّلها النحاة بكلمة"مثل"أو خرّجوها على أنّها زائدة(=صلة)،لأنّ جلّ ما ورد في كتاب الله تعالى و الآثار العربية تُضمِر بطريقة وبأخرى معنى "النموذج"أو المثال الذي يُؤتى به ليصدق على مجموعة من الجزئيات،وأعتقد أنّ من أطلق من المعاصرين على هذه الكاف مصطلح"كاف الاستقصاء"كان يريد النموذج الذي يُسحب على كلّ ما يماثلهمن الأشياء.


انظر في قوله تعالى:( أو كالذي مرّ على قرية....)فقد اختلف أهل اللغة و المفسرون في هذه الكاف على قولين:الأول على أنّ الكاف زائدة،والثاني على أنها بمعنى"مثل"ليكون التقدير:(أو الذي مرَّ على قرية) أو على تقدير:( ألم ترَ مثلَ الذي مرّ على قرية) وسلْ ذاتك: لِم جيء بالكاف هنا؟.


جاءت الكاف لجعل "الذي مرّ على قرية" أنموذجًا يصدق على كلّ من يوغل في السؤال عن قدرة الله على إحياء خلقه بعد مماتهم , وإعادتهم بعد فنائهم

ومثل ذلك قوله تعالى (أني أخلُقُ لَكم من الطّين كهيئةِ الطير، فأنفُخُ فيه فيكونُ طيراً بإذنِ اللهِ) فالذي يريد أن يباري في قدرته على خلق طير بإذن ربّه ،يختار صورة أو هيئة طير مثالية منمذجة على أحسن ما تكون.


وانظر في قوله تعالى:(ليس كمثله شيء) فقد فسر الزمخشري كلمة مثل ب(الذات) ليكون المعنى:ليس شبه ذاته شيء،فقد أثبت لذاته العظيمة مِثْلًا ثمّ نفى أن كون له مثيل سبحانه، وبعبارة أخرى ينفي سبحانه وتعالى أنْ يكون ذاته نموذجًا يدخل في عداده شبيه أو ندّ(ملحوظة:هذا التفسير يردّه الإلوسي ويأتي بخير منه).


ثمّ تأمل الكاف في قول الأعشى حين يجعل من الطعن خير وسيلة لنهي أعدائه ذوي الشطط،وهو يريد أنْ لا شيء مثل الطعن يكفّ ذوي الشطط :

أَتَنتَهونَ؟ وَلَنْ يَنْهى ذّوي شَطَطٍ
كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيهِ الزَّيتُ والفُتُلُ


وما قيل عن الكاف يقال عن كلمة "مثل"فجلّ شواهدها داخلة في ما نحن بصدده،فتأملها في هذه الشواهد كقوله تعالى:(ولا ينبّئك مثل خبير) و قول الأعرابي للحجاج((ومثل الأمير يُحمل على الجحش))


وهكذا عندما تقول(أنا كفلان)فإنّك بذلك تنمذج ذاتك،أي تجرّدها عن الذوات الأخرى وتقدّمها أنموذجًا أو مثالًا من خلاله تقرّر أمرًا ما أو تفرض رأيًا ما،أمّا قولك(أنا بوصفي فلانًا) أو(أنا _فلانَ كذا)فكلا الأمرين لا يفيان بذلك المعنى الذي تحسه في أعماقك .تأملْ هذا في نفسك جيدًا وسترى!


مهما حاولنا،ومهما أردنا إسقاط هذه الكاف على الصعيد الرسمي الضيّق،فما لنا إلّا أنْ نلجأ إليها _و إلّا فنستسيغها مع أنفسنا_ في مخاطباتنا وأحاديثنا على نطاق واسع،فنعم إنّها ترجمة حرفية لما يُقابلها في الانجليزيّة،ولكنها عربية بروحها ونبضها،وإلّا فهي تلائم طباع أهلها.



____________
*كلمة نمّونه:فارسية الأصل وتعرّيبها(نموذج)وللأسف يتداولها العراقيون في مقامات الذمّ والسخريّة فحسب،ولهذا فاتهم من مضمونها الكثير !.


كاف النَّمذجة أو الاستقصاء أو الدخيلة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


شكرا مقال طريف و مهم و يؤسس لمبحث يتطرق الى دراسة زوايا معينة من زوايا اللغة العربية ارجو ان تتحفنا بمزيد المقالات في هذا الصدد


محبتي لكم وبوركتم أخي ألف شكر