مدونة عبدالحكيم الأنيس


الصعيدي العاشق ... حب وعفة وزواج وإيثار. (1)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


05/05/2022 القراءات: 1352  


حكى الأميرُ شجاع الدين محمد الشرزي متولي القاهرة في أيام الملك الكامل الأيوبي سنة ثلاثين وست مئة قال:
بينما أنا ‌عند ‌رجلٍ ببعض بلاد (الصعيد) فضيَّفنا طعامًا شهيًا وأكرَمنا، وكان الرجلُ أسمرَ شديد السُّمرة وهو شيخٌ كبيرٌ، وفيه وسامة ظاهرة تدلُّ على رُواءٍ ونماءٍ وفتوةٍ في شبابه، وحضرَ له أولادٌ حسانٌ فيهم صفاءُ لون، فقلنا: يا فلانُ هؤلاء أولادٌ بيضٌ وأنت شديدُ السُّمرة؟
فقال: هؤلاء أمُّهم فرَنجية، أخذتُها في أيام الملك الناصر صلاح الدين وأنا شابُّ، نوبةَ (حِطِّين) [وقعتْ يوم السبت (25) ربيع الآخر سنة (583) الموافق 4 يوليو 1187م].
فقلنا: وكيف أخذتَها؟
فقال: لها حديثٌ عجيبٌ.
فقلتُ: أتحفنا به.
فقال:
زرعتُ كَتانًا في هذه البلدة مِن بلاد الصعيد وقلعتُه ونفضتُه، فانصرف عليه خمسُ مئة دينار، فلم يأت بمردودٍ أكثر من النفقة فيه.
فأُشيرَ عليَّ بحمله إلى الشام، فحملتُه إلى مدينة عكا، فلم يُجِبْ أكثر من ذلك!
فقيل لي: بعْهُ دَيْنًا إلى أجلٍ لعله يرجع لك حقُّ الطريق.
فبعتُ بعضَه دينًا إلى ستة أشهر، والبعضُ تركتُه عندي، واكتريتُ حانوتًا أبيعُ فيه على مهَلٍ إلى حين انقضاء الستة أشهر.
فبينما أنا أبيعُ وإذا قد مرتْ بي امرأةٌ فرَنجيةٌ، زوجُ بعض الخيّالة، -ونساء الفرنج يمشون في الأسواق بلا نقاب-، فأتتْ تشتري مني كَتانًا، فرأيتُ مِن حسنها وبهائها و جمالها ما أبهرني، فبعتُها وسامحتُها، ثم انصرفتْ.
وعادتْ إليَّ بعد أيام فبعتُها وسامحتُها أكثر من الكرة الأولى، ولم أملك إلا أن أسامحها، ولو أخذته بلا ثمنٍ لم أستطع مطالبتها.
فتكررتْ إلى عندي، وعلمتْ من نظراتي إليها وسماحي معها أني أحبُّها، فقلتُ للعجوز التي معها: إنني قد تعلَّقتُ بحبِّها، وأنا شابٌّ عزَبٌ غريبٌ فكيف تتحيلين لي؟
فقالتْ لها ذلك.
فقالتْ: تروحُ أرواحُنا الثلاثة أنا وأنتِ وهو.
فقلتُ لها: إذا أُذْهِبُ روحي باجتماعي بها ما هو كثير.
وحكتْ لي كلامًا كثيرًا جرى بينهما.
واتفق الحالُ على أنْ أدفعَ لها خمسين دينارًا صُورية [نسبة إلى مدينة صُور]، وتجيء إليَّ.
فوزنتُ خمسين دينارًا صُورية، وسلَّمتُها للعجوز.
فقالت: هيِّىءْ لنا موضعَك ونحنُ الليلةَ عندك.
فمضيتُ وجهّزتُ ما قدرتُ عليه مِن مأكولٍ، ومشروبٍ، وشمعٍ، وحلوى، وكانت داري مطلة على البحر، وكان الصيفُ، ففرشتُ لي على سطح الدار، وجاءت الفرَنجية فأكلنا وشربنا، وجُنَّ الليلُ فاضطجعنا تحت السماء والقمرُ يضيء علينا، وقمرٌ آخر كأنه أشد ضياءً بقربي، والنجومُ تنظرُ في البحر...وإخالُها تنظر إلينا...
فقلتُ في نفسي: أما تستحي من الله وأنت غريبٌ وتحت السماء وعلى البحر وتعصي الله مع هذه المرأة النصرانية فتستوجب عذابَ النار وعذابَ الدنيا؟! اللهم إني أشهدُك أني قد عففتُ عنها في هذه الليلة حياءً منك، وخوفًا من عقابك.
ثم نمتُ إلى الصبح، ولم أمسَّها.
فقامتْ في السَّحر وهي غضبى ومضتْ.
ومضيتُ إلى حانوتي فجلستُ فيه، وإذا هي قد عبرتْ عليَّ هي والعجوز، وهي مغضبةٌ، وكأنها القمرُ ، وقد زادها الغضبُ جمالًا وفتنةً وروعةً، فهلكتُ وسُقط في يدي، وقلتُ في نفسي: مَنْ هو أنتَ حتى تترك هذه الجارية الصبية الفاتنة؟! أنت الجُنيد أو السَّري السَّقَطي!
ثم لحقتُ العجوزَ وقلتُ: ارجعي.
فقالتْ: وحقِّ المسيح ما نرجعُ إليك إلا بمئة دينار.
فقلتُ: نعم.
ومضيتُ إلى حانوتي ووزنتُها.
وجاءتْ إليَّ ثاني دفعة، وأنا أجدُ في نفسي توقانًا وهيامًا لا يرويه ماءُ البحر، فلحقتني تلك الفكرة الأولى، وعففتُ عنها، وتركتُها لله تعالى، وأعانني الله تعالى وألقى في نفسي حاجزًا حجزني عنها.
ثم مضتْ.
ومضيتُ إلى موضعي.
ثم عبرتْ عليَّ وكلَّمتني وكانتْ مستغربةً... ما بال هذا الشاب العاشق الهائم المملوء شبابًا وقوةً أصيرُ إليه، وأنامُ بين يديه، فلا يقربني ولا يمسني ولا يروي ظمأه مني؟! وأين ذهب ذلك الوجد والتوق والغليان؟! وما الذي بدا له منّي فأخّره عني؟!
وقالتْ: وحقِّ المسيح ما بقيتَ تفرحُ بي عندك إلا بخمس مئة دينار أو تموت كمَدًا...
فارتعتُ لذلك، واشتعلت الرغبةُ في نفسي، والوجدُ في قلبي، والهيامُ في روحي، مرةً أخرى، وعزمتُ أني أغرمُ ثمنَ الكَتان جميعَه وأفدي نفسي، وسوّلَ لي حبي لها أنَّ ساعةً معها تساوي ملك الدنيا فما ثمنُ الكتان هذا!
فبينما أنا كذلك وإذا المنادي مِن طرف الإفرنج ينادي:
(معاشرَ المسلمين:
إنَّ الهُدنة التي بيننا وبينكم قد انقضتْ وقد أمهلنا مَنْ هنا من المسلمين إلى جمعةٍ ليقضوا أمورهم، وينصرفوا إلى بلادهم).
فانقطعتْ تلك المرأة عني.
وأخذتُ أنا في تحصيل ثمن الكَتان الذي لي، والمصالحةِ على ما بقيَّ منه.
وأخذتُ معي بضاعةً حسنةً، وخرجتُ من (عكا) وأنا في قلبي من الفرنجية ما فيه...
فوصلتُ إلى (دمشق)، وبعتُ البضاعة التي لي بأوفى ثمنٍ لانقطاع وصولها، بسبب فراغ الهدنة، ومنَّ اللهُ سبحانه وتعالى عليَّ بكسبٍ جيدٍ، وأخذتُ أتجرُ في الجواري عسى أن يذهبَ ما بقلبي من تلك الصبية الفرَنجية، ولازمتُ التجارة فيهنَّ، ولم أجد امرأة تسدُّ مكانَها وتنسيني حسنها الأخاذ، وجمالها الفتان، وحلاوتها الآسرة.
فمضى عليَّ ثلاثُ سنين، وأنا مقيمٌ في دمشق، وكأنَّ شعوري أني قريبٌ منها كان يشدني إلى البقاء فيها وعدم العودة إلى بلدي في الصعيد.
وجرى للسلطان الملك الناصر ما جرى مِنْ وقعةِ (حطين)، وأخذهِ جميع الملوك، وفتحهِ بلاد الساحل بإذن الله تعالى، وأنا كنتُ مع الجيش، خرجتُ مجاهدًا وقد منحني الله قوة وعزمًا وحزمًا ومضاءً، وأعملُ في تجارتي أيضًا، فطُلب مني جاريةٌ للملك الناصر، وكان عندي جاريةٌ حسنةٌ فاشتُرِيتْ له بمئة دينار، فأوصلوا إليَّ تسعين دينارًا، وبقيتْ عشرة دنانير فلم يجدوها في الخِزانة ذلك اليوم، لأنه أنفق الأموالَ جميعَها.
فشاوروه على ذلك فقال: امضوا به إلى الخيمة التي فيها السبيُ من نساء الفرنج، فخيِّروه في واحدةٍ منهنَّ يأخذها بالعشرة دنانير التي له...


الحب. العفة. عجائب القصص.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


جزاكم الله خير الجزاء