مدونة سعد رفعت سرحت


عن الشعر الذي أصبح كلّه متشابهًا(هل الصيغيّة سُبّة على الشاعر؟)

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


08/10/2022 القراءات: 491  




انظر في قوله تعالى:
(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)و قارنه بقوله تعالى:(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ )


جاءت الآيتان على التركيب النحوي ذاته،أو على صيغة لفظية واحدة تقريبا:(لو الشرطية+جملة الشرط+العطف على جملة الشرط+اللام الرابطة+جواب الشرط(=قال)+مقول القول) .


انظر في قول المتنبي:
ولستُ أبالي بعد ادراكيَ العلا
أ كان تراثًا ما تناولته أم كسبا

و قارنه بقوله:


وللنفس أخلاقٌ تدلّ على الفتى
أ كان سخاءً ما أتى أم تساخيا


جاء البيتان على الوزن ذاته(=الطويل)وعلى تركيب واحد أو صيغة قولية واحدة في الشطر الثاني(همزة التسوية+كان وتقديم خبرها على اسمها+أم +المعطوف على خبر كان).مع ملاحظة أن الشطر الأول في كلا البيتين _وإنْ اختلفا في التركيب النحوي_إلّا أنهما يستويان صيغيًّا على الصعيد الايقاعي،إذ تتوافق الأحرف و الكلمات في الموقع الوزني،فكثيرا ما يلجأ الشاعر الى صيغ لفظية سبق استخدامه في نتاجه،ولا أظنّ أنّ شاعرًا نجا شعره من ذلك.


هذه الأمثلة توضّح معنى الصيغيّة أو القالبية،فالكثير من النقاد و الشعراء يثيرون اليوم قضية (تشابه الشعر العراقي)و أصبح الطعن بشاعرية الشاعر عادة بين الأدباء:(شعره كلّه متشابه)ومنهم من يجهز على منجز شعري برمته بدعوى أنّه(أصبح كلّه متشابهًا كتشابه الأوراق في الغابات !)


طُبقت نظرية الصيغية على الشعر الجاهلي على يد زويتلر و مونرو ،وهي امتداد لنظرية(لورد وباري) عن الملاحم،و انتهوا جميعا إلى ما يعرف لديهم ب"القالب الصياغي" و أنّ الصيغية سمة ثقافة شفهيّة تنعكس على الشعر،و الكتابة كفيلة بإزالتها،وممن أثارها من نقاد العرب المعاصرين في مجال الشعر أدونيس،كما أثارها الآخرون في مجال السرد.


إذن تسأل:لِمَ يتشابه الشعر؟.


يتشابه الشعر لأنه محكوم بأطر موقفية متشابهة،و إثر ذلك يتشاطأ المعجم اللفظي لدى الشعراء،هذا من جانب.ومن جانب آخر ما زال شاعرنا يراهن على البداهة و يتفاخر بأنّ القصيدة الفلانية (لم أدونها) الى اليوم،و أنّ القصيدة الفلانية كتبتها تحت تأثير اللحظة،وهو لا يدري أن الاصرار على البداهة واللحظة يجعل القصيدة قالبيّة وليست سوى صدى لصوت قديم(=صوته هو أو صوت أسلافه) .


وممّا هو جدير بالذكر أنّ الكتابة ب"الكيبورد"لم تنأ كثيرًا عن ثقافة الصوت،فهي كتابة لحظية خاضعة للتقاليد المتوارثة للقول،لأن الشاعر خلف الكيبورد منفعل بحرارة اللحظة و محكوم بصوت غير صوته،فمثلا اعتماد الشاعر على أقرب الألفاظ التي تخطر بباله و أقرب الصيغ التي تكون في متناوله،و اللجوء الى أساليب الترصيع و رد العجز على الصدر و التكرار والكثافة الصوتية والتذييل،و إعادة صياغة المعاني، ....إلخ، كلّ أولئك سبيل إلى تشابه الشعر.



و بناءً عليه،ليس من الغريب أنّ نرى الصيغيّة وهي تتسلّل الى قصيدة النثر التي هي رهان كتابيّ،فهي حسب النقاد قصيدة قراءة لا قصيدة إنشاد،إلّا أنّ في نفوس كتابها حنينًا الى العمود،على ما أشار الى ذلك د.عارف الساعدي،وهو يتحدّث عن (عمود النثر !).


ومن ثمّ،فليس في تشابه المنجز الأدبي عيب إذا كان في حدود معينة،ففي القرآن الكريم وهو كتاب معجز تألف التكرار والتشابه عند عرض مضامين متفقة و مختلفة على حدّ سواء،كذلك الحال في الحديث النبوي الشريف،و آثار البلغاء....


فكيف الحال بالشعر العراقي الذي هو في كثير منه نتاج لحظيّ،سواء في منجز الشاعر الواحد،وفي الشعر العراقي عامة ،فالشعر _ كغيره من النتاجات الفكرية_ خاضع لسياقه مهمّا توغل في الذاتية ومهما استهدف الشاعر التمييز والفرادة.


ثمّ، لا شيء أجمل من تشابه الأوراق في الغابات



الشعر أصبح كله متشابها _الصيغية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع