العدد السابع مقالات

لغويات قرآنية الحلقة (1) / مقالات

17/02/2021

د.بسام مصباح الأغبر

قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1973، اعتبار يوم 18/ كانون الأول، من كل عام اليوم العالمي للغة العربية، وأصبحت فيه اللغة العربية، لغة رسمية داخل أروقة الأمم المتحدة، ومنظماتها، وإذا كان العالم يحتفل في هذا اليوم باللغة العربية، فإنَّ شُداةَ اللغةِ العربية وعشّاقها، يحتفلون بها في كل وقت وحين، وربما لم تكفِ لهم الأيام لفهم أسرارها، والتعرف عن قرب على نظامها القويم؛ إذ توجد هندسة للغة العربية، كلما دققنا في فهم خفاياها، زادت جوارحنا خشوعاً، وتعمقت نظراتنا نحو الحياة، ورأينا جمال اللغة في كل شيء خلقه الله، كيف لا؟ واللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، من هنا، فإننا في مجلة (صدى أريد) كان لنا احتفالٌ خاص في هذه اللغة، التي وصفها الله بأنها لغة بيان، فقال عز وجل: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 195]، ومدحها الشاعر جاك صبري شماس، بقوله:

لغـة حباها اللهُ حرفاً خــــالداً         فتضوعت عبقاً على الأكوان

ونعود إلى تبيان طريقة احتفالنا، في هذه اللغة العظيمة، إذ إننا سنُخصص في كل عدد من أعداد هذه المجلة الرائدة، بتدبر وقفة لغوية قرآنية، نشرح فيها أهم مزاياها، ونحاول، قدر الإمكان، أن يكون شرحنا سهلاً، واسهابنا قصيراً، دون إهمال أو إغفال لقواعد اللغة العربية، والتفسير القرآني، أو تعسف في الرأي، أو التعمق في المصطلحات التخصصية، وبذلك، نحقق هدفاً نرنو إليه، ألا وهو إعادة بثِّ روح الجمال في نفوس القارئ الكريم، ونخدم هذه اللغة العظيمة، لغة القرآن الكريم.

وسنعرض مقالنا، بعد أن نعود إلى آراء أئمة التفسير، وعلماء اللغة، وما يوحيه النص القرآني، وما تعنيه ظلاله القرآنية، ذلك كله، في محاولة، نرجو من الله قبولها، تعود بالنفع على اللغة العربية، والقارئ الكريم، وعلى الله قصدُ السبيل.

نبدأ على بركة الله، في الوقفة الأولى:

نقرأ في اليوم الواحد سورة الفاتحة عشرات المرات، وهي سورة عظيمة، افتتح الله بها كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيها من الأسرار الربانية، والخفايا اللغوية، والإشارات البلاغية، ما تعجز عن وصفه أقلام الأدباء، وكُتب المفسرين.

نقف اليوم أمام ملمح لغوي واحد في قوله تعالى:

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } [الفاتحة: 7]

فلماذا ذُكر الفاعل: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، في حين جاء (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بالاسم، دون ذكرٍ للفاعل أو من أنزل عليهم الغضب؟

1.   الفاعل في الآية السابقة، هو الضمير (تَ) الذي يعود على الله عز في علاه، وجاء متصلاً بفعل يدل على النعمة ونشر الرحمة بين عباده، في حين يدل لفظ الغضب على العذاب والانتقام، ورحمة الله تسبق غضبه، فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ أَكْمَلَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَسْبَقَهُمَا وَأَقْوَاهُمَا.

2.   إنَّ عدم ذِكر الفاعل يدل على الإهانة، والتحقير، وتصغير الشأن للمغضوب عليهم، فهنالك فرق بين القولين: (هَذَا الَّذِي أَكْرَمَهُ الرئيس)، و(هَذَا الَّذِي أُكْرِمَ)، فالقول الأول أَبْلَغ فِي الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، ورفعة المنزلة مِنْ القول الثاني.

3.   يَتَضَمَّنُ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِم أمرين؛ هما العمل والجزاء: فالهداية إلى العمل الصالح، والعلم النافع، يصل بصاحبه إلى حُسن الجزاء، وهو الجنة، فالله هو الذي تفضل على عباده بالهداية.في حين، حُكم على (المغضوب عليهم) ودخلوا في دائرة الغضب بسبب أفعالهم التي أوجبت عذابه عليهم؛ بمعنى أن سبب غضبه عليهم يعود إلى أعمالهم السيئة التي قاموا بها، وتركهم لطريق الله، فوقع عليهم وعلى أفعالهم الغضب والعذاب والهوان؛ فلم يصلوا إلى هذه الفئة إلا بعد أن بَدَر منهم العمل السيء. فالإنعام يكون سببه توفيق الله، وبداية الأعمال الصالحة، والغضب يكون سببه البعد عن الله، واختيار الأعمال الطالحة.

4.   إن في توظيف الجملة الفعلية (أنعمت عليهم) دلالة على تجدد الإنعام من الله على عباده، ويشمل ذلك حمايتهم، وهدايتهم، وتوفيقهم، في كل ما يقومون به، في المقابل، يدل توظيف الجملة الاسمية (المغضوب عليهم) على دوام حال غضب الله على هذه الفئة، وعدم التوفيق في الدنيا والآخرة.

نسأل الله تعالى أن نكون ممن أنعم عليهم، وهداهم إلى صراطه المستقيم، في الدنيا والآخرة.

والله تعالى أعلى وأعلم

*ملحوظة، يمكن الاستزادة، والتفصيل، بالعودة إلى المراجع الآتية:

ابن القيم الجوزية:مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. 1/ 35 وما بعدها.

الزمخشري: الكشاف. 1/16 وما بعدها.

الرازي: مفاتيح الغيب. 1/164 وما بعدها.

العدد السابع لغوبات ، القران الكريم ، اللغة العربية ،

مواضيع ذات صلة