العدد الثامن مقالات

لغويات قرآنية (2) / مقالات

18/02/2021

د.بسام مصباح الأغبر

 

نقف أمام قوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72]

لنبحث سبب مجيء كلمة {رضوانٌ} نكرة، وأمور أخرى تتصل بالسياق المقامي المقالي القرآني:

أولاً- التنكير:

للتنكير في اللغة العربية معاني متعددة؛ منها، كما قال سيبويه، ما يأتي لإرادة الوحدة، مثل قول أحدهم: (أتاني رجلٌ) يقصد واحداً في العدد، لا اثنين. أو لتبيان الجنس؛ أي: (أتاني رجلٌ لا امرأة)، وغير ذلك من المعاني النحوية التي لا يتسع المقام، هنا، لشرحها.

وفي هذه الآية الكريمة، جاءت كلمة {رضوانٌ} نكرة، فلم يأتِ التعبير القرآني، على سبيل المثال: (ورضوانُ الله أكبر)، وسبب ذلك، أنَّ توظيف التنكير في: {رضوانٌ} أفاد أنَّ القليل من رضوان الله تعالى، أكبر من النعم المادية التي سبقت ذلك كله، من جنات وقصور، وأنهار؛ لأنَّ رضا الله سبحانه وتعالى، كما قال الزمخشري: "هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، وقال أحد العارفين في الله: لا تطمح عيني، ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عنى".

أضف إلى ذلك، فإنَّ الجنة، وأنهارها، وقصورها، كلها أمور مادية، تسعد النفس بها، ولكنَّ السعادة الحقيقية، هي السعادة الروحانية، وهي أعلى وأشرف من السعادة المادية الجُسمانية، فإذا اجتمعت السعادة المادية، والراحة النفسية، فقد حصل العبد على أعلى مراتب الفوز.

*وقفة مع علم الأصوات: {رِضْوَانٌ مِنَ}

تتكون هاتان الكلمتان من عدد من المقاطع الصوتية، والكتابة الصوتية الآتية، تُظهر ذلك:

ri/waa/nun+min

ونجد أن تنوين التنكير، ساعد في بناء مقطع صوتي متوسط مغلق

 (nun)، (cvc

وهو من المقاطع الصوتية المفضلة في اللغة العربية، وعندما جاء هذا الصوت ساكناً في نهاية مقطع، كان ضعيفاً لسببين: لسكونه، وموقعه، مما جعله عُرضة لأن يتأثر في الصوت الذي يأتي بعده، ونعني به، هنا، صوت الميم (mi) القوي في صفاته، وموقعه، مما مكّن صوت الميم الذي يشترك مع سابقه، صوت النون، بعدد من الخصائص، من أبرزها الوضوح السمعي، والجهر، والغنة، ذلك كله جعل حدوث الانسجام الصوتي أمراً حتمياً، وهو ما يُسمى، في علم الأصوات:

(التأثير الرجعي الكلي Total Regres)  

(num+min)

نتج عن هذا الانسجام، إدغام قوي حسن سهل النطق، جذب إليه صوت النون الساكن، وهو ما يُطلق عليه في علم التجويد (الإدغام بغنة)؛ وكأنَّ السياق الصوتي النطقي القرآني، بعد حدوث الانسجام الصوتي، يريد أن يأخذنا مباشرةً إلى المتفضل على عباده في الرضوان، وهو الله العزيز، ذو الفضل العظيم.

ثانياً- استعمال اسم التفضيل (أكبر):

أي أنَّ رضوان الله تعالى أكبر من الجنان ونعيمها، وفي ذلك، يقول السَّكّاكي، في مفتاح العلوم، إنَّ قدراً "يسير من رضوانه خير من ذلك كله؛ لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح".

 وهنا، نتذكر حديثَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي رواه البخاري:

( أنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالَى يقولُ لأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنَّةِ؟ فيَقولونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ، فيَقولُ: هلْ رَضِيتُمْ؟ فيَقولونَ: وما لنا لا نَرْضَى وقدْ أعْطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِن خَلْقِكَ، فيَقولُ: أنا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِن ذلكَ، قالوا: يا رَبِّ، وأَيُّ شيءٍ أفْضَلُ مِن ذلكَ؟ فيَقولُ: أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي، فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا).

اللهم اجعلنا ممن ترضى عنهم، وتدخلنا في رحمتك.

والله تعالى أعلى وأعلم.

 

 

العدد الثامن القرآن الكريم ، التفسير ، اللغويات