العدد الثامن تأملات إعلامية

الاتصال الأول مع وحي السماء / تأملات إعلامية

18/02/2021

د.عبدالله الوزان

ورد في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد،..حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن عم خديجة- وكان امرآ تنصر في الجاهلية، فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.

فهذه الواقعة تتضمن الفوائد الإعلامية الاتية:

التدرج النفسي والذهني للمرسل قبل الاتصال: بدأت مراحل الاتصال مع وحي السماء بصورة متدرجة، لثقل هذا الاتصال، ولأن طرفاه ليسا من جنس واحد (الملائكية- البشرية)، فكانت الصورة الاولى للوحي هي الرؤيا، فكان النبي المرسل صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، واستمرت مدة الرؤيا الصادقة ستة أشهر، والفائدة الإعلامية من هذه المدة هي للتدرج في الاعداد الذهني والنفسي للمرسل، والابتداء بأيسر صور الاتصال بين المصدر والمرسل، للتخفيف والتمهيد والتدرج في التلقي العملي، ومن خلاله بدأ المرسل يستشعر ارتباطا خاصا بالمصدر في السماء.   

اختبار الصدق والثبات قبل عرض الرسالة: أما اختبار الصدق: فقد طلب الوحي من المرسل القراءة (اقرأ): لتمييز الصادق من الدعي الذي يدعي علم ما لم يعلم أو يتقن، أو ليقيس به هذه الصفة ولا يقيس صفة بديلة أو مشابهة لها، فكان الجواب: (ما أنا بقارئ)، وأما اختبار الثبات: فكان باستعمال طريقة إعادة الاختبار ، في ظروف متشابهة قدر الامكان، وتراعى مدة اختبار الثبات علميا بحسب نوع الاختبار، فقد كرر الوحي طلب القراءة ثلاث مرات مع التعامل بشدة في إثر كل جواب يتضمن النفي، والغاية من ذلك اختبار ثبات المرسل على موقفه على الرغم من الشدة التي يعانيها بعد نفي القراءة، بقصد التوثق من دقة القياس والتقويم .

واليوم خبراء مناهج البحث العلمي في علوم الاتصال وغيرها، يؤكدون على اخضاع أداة البحث من استبانة أو اختبار تحريري إلى خطوتين هما: الصدق والثبات قبل اعتمادها؛ لأن استقرار نتائج البحث ستعتمد كليا على هذه الأداة، والمراد بالصدق معرفة الدرجة التي يقيس بها الاختبار الشيء المراد قياسه من صفة أو غيرها، والمراد بالثبات أنه لو اعيد تطبيقه على نفس الأفراد فإنه يعطي نفس النتائج أو نتائج متقاربة مما يؤدي إلى الاستقرار في النتائج.

مراجعة أهل الاختصاص والتجرد لتفسير الحوادث الجديدة: إن الحدث من المواد الاساس للعملية الإعلامية الاخبارية، والقصة الاخبارية تقوم على وصف الحدث وتفسيره وتحليله، وحتى تكون هذه العملية متقنة لا بد من الرجوع إلى أهل الاختصاص والتجرد ليكون تحليلهم للمعلومات وتفسيرهم للنتائج مستندا إلى علم ومعرفة، ومقصدهم بيان الحقيقة بتجرد وموضوعية، فمع اتباع الخبير لدين النصارى ونبيهم هو عيسى عليه السلام، إلا أنه أكد أنه الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام، لعلمه أن اليهود تضمر عداوة لجبريل، وستنكره بعد ظهوره وبعثته، فأراد ترسيخه لديه منذ وقت مبكر، كما أقر اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ولم يحسده عليها أو يؤثر نفسه عليه، كما تضمنت اجابات ورقة التأكيد على صدق الدعوة بشواهد من التاريخ والحاضر والمستقبل ، واستند التحليل على عمق الارتباط بالحوادث السابقة وعمق الرؤية المستقبلية لهذه الواقعة، أي ما قبل الحدث وما وراءه أو بعده بلغة الإعلاميين.

وزيادة في ثقة الخبير أو المحلل المختص بما توصل إليه: اعلانه عن استعداده التام للقيام بواجب نصرة المرسل ورسالته التي ستظهر في المستقبل، وهذا تحفيز للمرسل وتأكيد على صدق دعواه وإقرار لجدية الوحي واثبات واسطته بين المصدر والمرسل سابقا ولاحقا، وإخبار بالمهمة القادمة وبعض تحدياتها كالتهجير والايذاء والعداوة، والحاجة إلى النصرة.

الكلمات التحفيزية المشجعة: المرسل أحوج ما يكون إلى الكلمات المحفزة المشجعة في مرحلة الاختبار أو مبتدأ التكليف بوظيفة الإعلام والتبليغ، ولا سيما إن صدرت من شخصيات مقربة أو مختصة بل ومن طرف الاختبار نفسه، وكلها بقصد التشجيع والتثبيت والتأكيد.

فحينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لزوجته خديجة: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، ثم ذكرت فضائله، وقالت له بعد أن ذهب عنه الروع: أبشر يا ابن عم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، فهذه كلمات تحمل معاني الجدية والعمق والثقة بالمصدر والمرسل: فقد اثبتت المصدر وعدله، وذكرت خصائص المرسل وفضائله التي تشفع له في دفع ما يخشاه، وأخيرا البشارة بالنبوة.

كما جاءت كلمات ورقة بن نوفل لتعزز هذه المعاني: وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، وفي رواية قال له مبشرا ومؤكدا: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى.

دلالات إعلامية في تحليل محتوى أول رسالة:

تحدثت الآيات التي تليت في الغراء عن أول أمر تكليفي صدر من المصدر سبحانه إلى المرسل الذي سيكلف فيما بعد بتبليغ الرسالة، وهو يتعلق بوسيلة إعلامية تعد من أقدم وسائل الإعلام بعد الاتصال الوجاهي هي القراءة، فالرسائل المقروءة هي التي تعتمد على حاسة البصر لتلقي المعلومة، وقد جاء التكليف بواسطة الاتصال الوجاهي.

وعادة تكون الرسائل المقروءة في اللقاءات المباشرة الأولى أرسخ في تبليغ الرسالة وهي المعتمدة في دقة المعلومة ولا سيما غير المألوفة.

كما ضمت هذه الآيات -الأولى في التنزيل- عناصر العملية الإعلامية الاتصالية، فقد حددت المصدر (باسم ربك)، وحددت المتلقي (الإنسان)، وحددت الوسيلة (القلم) الذي يعبر عن الوسائل المقروءة التي تستند إلى الكتابة، وأما الرسالة فتمثل بيان حقيقة ربوبية المصدر سبحانه في الخلق والعلم الوهبي، والتكليف بالقراءة لأجل العلم والمعرفة.

ولم تذكر هذه الآيات الاستجابة والتأثير لسببين: افتتاحها بأمر تكليفي غايته الإعلام واختبار المرسل، وليس التكليف لأنه لا يملك أداته والقدرة عليه آنذاك، وإنّ المقصد من الخطاب التمهيدي تهيئة المتلقي لأمر سيأتي بعد حين، وعادة تكون هذه التهيئة نفسية وشعورية لا تكليف عملي فيها.

العدد الثامن الوحي ، التدرج النفسي ، الصدق ، الثبات

مواضيع ذات صلة