10 مقالات

إلغاء التجريم من منظور اجتماعي / مقالات

06/05/2021

مهند عماد عبد الستار الزبيدي

إنّ أداة التجريم تقتضي تقييد حرية الأفراد في المباشرة لبعض الأفعال والسلوكيات، وهذا من بديهيات تطبيق النظام العام، على اعتبار أنَّ التجريم يُخضع بعض السلوكيات لضوابط اجتماعية نتيجة ردة فعل اجتماعية من أفراد المجتمع مما يحتم عدم الخروج عنها، وبالتالي فإن الخروج عن تلك الضوابط يجعل الأفراد أمام جزاءات سالبة للحرية، وجزاءات مُنقصة للذمة المالية، يفرضها المشرع الجنائي لأسبابٍ اجتماعية، أو لأيّ سببٍ آخر.

وبما أن الجزاء الجنائي هو نتاج ردة فعل اجتماعي، يقرره الشارع بسبب ارتكاب سلوك جرمي معين، فكذلك يمكن اعتبار رفض التجريم في وقتنا المعاصر هو من قبيل رد الفعل الاجتماعي؛ ومثال على ذلك شرب الخمر وبيعه، كان خاضعاً لنص التجريم سابقًا في أغلب المجتمعات، لا سيما في المجتمعات ذات التوجّه الديني، إلّا أنَّ نص التجريم لم يجدِ نفعًا كأداة ردع من جهة، وأصبح الخمر مقبولًا من منظور اجتماعي من جهةً أُخرى، مما دفع المشرع إلى الحد من تجريمه مما أضفى صفة الإباحة عليه بحدود معينة، وبالتالي أصبح ضمن نطاق حرية الأفراد وحقهم في ممارسته التي يتوجب على المشرع حمايته بعدما كان يسلط سيف التجريم والعقاب عليه.

ربما رفض التجريم _ من المجتمع _ قد يكون بسبب التغيير المفاجئ في الموروثات والاديولوجيات الاجتماعية الذي بدأ يكسر هذا التقييد ويتحرر منه، مما ولد ردة فعل اجتماعية لا يمكن التغاضي عنها أو اضطهادها بأيَّ صورة من صور المعالجة القانونية، وخصوصًا المعالجة بواسطة القانون الجنائي، وبالتالي فإنّ الأفعال التي يعتبرها المشرع ظاهرة إجرامية من وجهة نظره ويلقي على عاتقه تجريمها، قد تصبح ظاهرة أساسية في نطاق حرية الأفراد مما يدفع إلى إلغاء التجريم من منظور اجتماعي، مما يحتم على المشرع إباحتها والحد من نطاق تجريمها، وبذلك يكون التجريم من عدمه من منظور اجتماعي وليس من منظور المشرع. ونلاحظ توجّه أغلب التشريعات في الدول الأوربية نحو سياسة إلغاء التجريم، إذ تم إباحة فعل العلاقات المثلية وكذلك إباحة فعل الإجهاض بعدما كانا خاضعين لنصوص التجريم، وهذا نتيجة التقدم في الأفكار والقيم الاجتماعية بالنسبة للمجتمع الأوربي، التي باتت تنظر إلى تجريم مثل هذه السلوك على أنّه خطر يمس بحياتهم ويحد من حرياتهم.

وبناءً على ذلك، فإنّ هذا التوجّه الحدث لم يتردد صداه في أروقة المحكمة الدستورية العليا المصرية وكانت سبّاقة لمواكبة تطور السياسة الجنائية الحديثة، إذ أكدت في إحدى أحكامها بالقضية رقم 53 لسنة 18 قضائية على أنَّ: " القانون الجنائي يجب أن يُحدد من منظور اجتماعي ما لا يجوز التسامح فيه في مظاهر سلوك الأفراد، وأن يُسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيًا ممكنًا، مما يعني أن الجزاء الجنائي عن أفعالهم لا يكون مبررًا إلا إذا كان مفيدًا من وجهة نظر اجتماعية، فإذا كان متجاوزًا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريًا، غدا مخالفًا للدستور". وبالتالي فإننا نؤيد ما ذهبت إليه المحكمة الدستورية العليا المصرية، لأنّها_ وبهذا التوجّه تحديدًا _ كانت الضوء الذي يُنير بصيرة المشرع نحو مواكبة التطور الحاصل في السياسة الجنائية الحديثة، بشرط أن يكون إلغاء تجريم سلوكٍ ما، لا يمس المنظومة الأخلاقيّة للمُجتمع ككل، أو يهدد أمن المجتمع، فضلًا على أنّه لا يجوز تسليط سيف التجريم على كل ما يدب في المجتمع من أفعال وسلوكيات يقوم بها الأفراد، والتي لا ترتقي إلى مرحلة من الخطورة، لأن الإفراط في استخدام أداة التجريم يجعلنا أمام انحراف تشريعي يخل بحرية الأفراد.

10 المنظور الاجتماعي ، التجريم ، الحريات

مواضيع ذات صلة