10 تأملات إعلامية

الخطاب الجماهيري ومملكة النمل / تأملات إعلامية

08/05/2021

د. طه احمد الزيدي

قال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) (سورة النمل).

تعرض هذه الآيات نماذج من الأعمال الإعلامية المؤثرة، من عالم الحيوان الذي يعيش في كنف البيئة الإنسانية:

ويتجلى هذا النموذج الإعلامي بالخطاب الجماهيري المؤثر الجامع المانع المختصر المؤدي لأغراضه من غير حشو، ولا تطويل لا يليق بموضع الإنذار من خطر قريب داهم، ومما يستدعي التأمل في قوة هذا الخطاب أنه صدر من نملة لتحذر قومها من خطر قد لا يقصدهم مباشرة، حددته مع تلمس العذر المسبق لجهة الخطر، وأحاطت بما ألهمها الله تعالى باسم سليمان فذكرته، وكل ذلك جعله يبتسم لهذا الخطاب المؤثر، قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال.

وفي قوله تعالى: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، أي: أصحاب سليمان لا يَشْعُرون بمكانكم، فالتمست لهم العذر لأنها علمتْ أنَّه ملك لا بغي فيه، وأنهم لو علموا بالنمل ما توطَّؤوهم.

إنّ قصة النملة مع قومها تمثل عملية اتصالية متكاملة، فالنملة هي المرسل، وسكنة وادي النمل هم المستقبلون، والرسالة هي خطاب التحذير والنصح بدخول المساكن حتى لا يحطمنهم جيش سليمان عليه السلام وهم لا يشعرون بهم، والوسيلة هي الاتصال الوجاهي الجمعي المباشر، والاستجابة الايجابية تتمثل بدخول النمل الى مساكنهم.

لقد قامت النملة بوظيفة إخبارية تستهدف مصلحة جماعتها وتجنبها الأخطار التي تهددها وهذا معلم قرآني واضح يجب أن يسترشد به رجل الإعلام الأمين في الحرص على مصلحة الأمة التي ينتسب اليها، وأن يكون من مهامه تنبيه قومه الى ما يتهددهم من أخطار وأضرار ويوضح لهم كيفية تجنبها حرصا على حياتهم في أمن وسلام.

ويلاحظ أنها استخدمت خطابا ذا تأثير جماهيري بليغ، واستماليا جمع عناصر الإقناع على وجه ملفت ومبهر، ولقوة هذا الخطاب عدّ بعض العلماء هذه الآية من عجائب القرآن البلاغية، لأنها أتت بلفظة «يا» نادت «أيها» نبّهت «النّمل» عيّنت «ادخلوا» وجهت «مساكنَكم» نصَّت «لا يحطمنَّكم» حذَّرت «سليمانُ» خصَّت «وجنوده» عمَّت «وهم لا يشعُرون» عذرت، فقد عبرت عن أكبر عدد من الأفكار بأقل عدد من الكلمات، وهذا يتناسب مع الخطاب الإعلامي في الأزمات، فضلا عن التزامها الصدق والموضوعية في وصف الحدث، من غير تحيز ولا تحريف ولا تهويل ولا تجاوز على الآخرين.

ومن أسباب قوة خطاب النملة إحاطتها بمعلومات دقيقة عن الحدث وتداعياته، فقد علمت أن القادم هو سليمان عليه السلام إلهاما أو تحريا، وهو معروف من قبلها وقبل قومها فذكرته باسمه، وفيه دلالة على أن الشخصيات المشهورة هي مادة الإعلام ومحط التغطيات الإخبارية، وعلمت بالجنود وطريق مسيرهم وأنه يمر بوادي النمل، واحتمالية تحطيمهم واردة جدا، وأنهم لا يقصدون فعل ذلك ولا يشعرون به، فضلا أنها قامت بوظيفة إعلامية مبنية على التعبير والتحذير، والاعتذار المسبق لتصرف غير مقصود رغبة في أن يغير الجيش مسار الحركة وقد علم بخطابها، وبذلك يتجلى الدور الذي يقوم به الإعلامي في خدمة مجتمعه وأبناء أمته، وأن يوظف خطابه الإعلامي لإرشاد قومه للحق والخير والصواب، وأن يبذل لهم النصح والمعلومات النافعة المفيدة.

ولذا ينبغي على الإعلاميين أن يتحلوا بالمهنية، وأدب الخطاب الإعلامي؛ بالتماس الأعذار، ولاسيما للشخصيات العامة، بدلا من ظلمهم بافتراء الأكاذيب ونقل الشائعات من غير تثبت، أو التشهير لغرض الابتزاز أو الإثارة، كما أن عليهم أن يتقنوا فن إدارة الأزمات إعلاميا، ليسهموا في تقليل أثرها على المجتمع، وأن يتواضعوا في تلقي هذا العلم، فهذه النملة أعطت الإعلاميين درسا في الإدارة الإعلامية للأزمات، وشفقتها على قومها، فوظفت الخطاب الإعلامي لإنقاذهم ونالت اعجاب أكبر شخصية في عصرها، نبي الله سليمان عليه السلام، وقد تأثر بخطابها المعلن وما تضمنه من رسالة مستترة قد لا تكون مقصودة، جعلته يتضرع الى الله بالشكر وأن يتذكر والديه وقومه الصالحين، (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)، فصلاح هذه النملة وشفقتها على قومها، جعله يستشعر هذه القيمة وأهميتها فاستحضرها وطلبها من ربه.

10 الاعلام ، القصة ، الخطاب الجماهيري

مواضيع ذات صلة