11 مقالات

باختلاف زوايا النظر ترتقي عقول البشر / مقالات

09/05/2021

د. مخلص السبتي

 

كثيرا ما تختلف رؤانا للموضوع الواحد، حتى في المباحثات العلمية وتنزيلاتها العملية، فـتتباين تقديراتنا وأحكامنا قبولا ورفضا، أخذا وردا، من دون أن يعني ذلك أن آراءنا هي بالضرورة دائرة بين صواب وخطأ، بل كثيرا ما تكون أغلبها صائبة من دون أن يدرك أطراف الحوار أو النزاع ذلك، وإنما يرجع الاختلاف إلى تعدد زوايا النظر، حيث إن لكل شخص مهما كان مستواه - في العلم أو الخبرة - زاوية معينة ينظر من خلالها إلى مكونات وأحداث محيطة، فإذًا الفكرة صحيحة سليمة ضمن سياق، فاسدة باطلة ضمن سياق آخر، من دون أن ينتبه الناظر غالبا إلى أن نظرته محكومة بظرف وسياق، وثقافة وتاريخ، وليس بالإمكان قبول فكرة أو رفضها على إطلاقها، بل بالرجوع إلى السياق الذي أنتجها، والإكراهات أو الإغراءات التي استدعتها.

 

إن  النظر في مختلف السياقات التي تستدعيها تغيرات التاريخ والبيئة والعرف والاجتماع ...هو الذي يوسع الآفاق ويمهد للوفاق، وبهذا فإننا حينما حينما نقول: (إذا اختلفت زوايا النظر ارتقت عقول البشر) فإننا نجد أنفسنا أمام  ناظر ومنظور، وزاوية نظر، ثم استنتاج معين.

 

فالناظر: هو المحاور الذي قد يكون باحثا عن المعرفة، أو عن وسائل تنزيلها والاستفادة منها، أو عن وسائل تحقيق مصلحة خاصة أو عامة، وهو إنسان له ذات وكيان، ومصالح وأهداف، وهوية وانتماء، وقد تكون له رسالة ورؤية، وهو يستحق من التقدير ما يرسخ هويته ويغنيها ويوسعها، فيعرف نفسه في إطار هوياته المتعددة المتكاملة أسرية ووطنية وإنسانية ... إذ لا يمكن لإنسان لا يعرف ذاته أو ضعيف الارتباط بهويته، أو يعيش أزمة هوية  أن ينفتح على المعارف أو يستوعبها، لأن الذات المنفتحة ضائعة أو متأزمة، والهوية وعاء المعرفة، فإذا  فسد الوعاء ضاع المحتوى.

 

والمنظور: مادة الحوار ومضمونه، وقد يكون فكرا ، أو تخصصا معرفيا، أو انتماء سياسيا يدعو إليه ويدافع عنه صاحبه، وقد يكون حكما على واقع معين بالقوة أو الضعف، أو بالنفع والضرر.

 

أما زاوية النظر: فهي مختلف مكونات الثقافة والاجتماع المشكلة للخلفية التي ينظر من خلالها المحاور لموضوعه، وكلما عدد الناظر من زوايا نظره استوعب المعارف فاتسعت آفاقه، ومن أجل ذلك، لا بد من تقبل المخالف وحسن الإنصات إليه والاستمداد منه، وعلى الرغم من ثقل ذلك على النفوس، فلا بد لهذا من ذاك، فإنه من اكتفى بزاوية  نظر واحدة (هي زاوية تخصصه العلمي أو انتمائه الديني، أو تياره الفكري..  ) انكفأ وضاقت نفسه، فحرمها من الاستفادة من كل  تخصص غير تخصصه أو دين غير دينه أو تيار غير تياره، فكان فيما تخصص له ضعيفا ورأيه فيه سقيما، فإنه " لا يعرف حتى لغته الذي لا يعرف إلا لغته " كما هو منقول عن الفيلسوف الألماني غوته، وإنه " من اقتصر على علم واحد لم يطالع غيره أوشك أن يكون ضحكة، وكان ما خفي عليه من علمه الذي اقتصر عليه أكثر مما أدرك منه لتعلق العلوم بعضها ببعض..." كما قال ابن حزم الأندلسي قبل ما يقارب الألف سنة .

ولهذا فإن كل حوار مستعيض عن كفاءة الاستماع بمساعي الإقناع هو حوار فارغ من الفائدة، ما تلبث الأوضاع فيه أن تنزلق إلى المغالبة والصراع، فإذا انتشر هذا السلوب أصاب الثقافة العامة بتشوهات تعيق السير وتربك الخطوات وتعيق الإبداع، فتصبح ثقافة سجالية تستمد مشروعيتها من مقارعة "الخصوم" لا من البحث معهم عن طرق توسيع المشتركات الوطنية أو الإنسانية أو البيئية... ، ولعل السبب الأكبر في ذلك  ضيق أفق كثير من الموجهين التربويين، وكثير من المرشدين الدينيين أو ضعف اهتمامهم بتنمية " التفكير المركب "، واستبداله بأشكال متعددة ومتباينة من التفكير السطحي البسيط.

 

نخلص من هذا ضرورة أن يمكن طالب المعرفة من النظر إلى موضوع تخصصه من زوايا نظر متعددة لكي يتمكن من إغناءه، فيخدم المعرفة بموضوعه، ويخدم المجتمع بمعرفته، وهذا يقتضي ضرورة انفتاح تخصص الدراسات الإسلامية مثلا على الفلسفة والتاريخ وعلوم النفس والاجتماع وإعلانات حقوق للإنسان... ويقتضي ضرورة انفتاح تخصصات العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية والثقافة الإسلامية، وانفتاح كليات الطب على الفقه الإسلامي وتاريخ الطب عند العرب....

 

ثم الاستنتاج: وهو هدف المعرفة التي تنمو وتغتني بمقدار تعدد أدوات الوصول إليها، أي تعدد زوايا النظر، وسواء التقت الأفكار أو افترقت، فالتقاؤها وافتراقها عناصر إغناء ونماء إذا تم حسن التوظيف، ففكرتان اثنتان لا تنتجان فكرة ثالثة، بل عددا لا نهائيا من الأفكار، وحقا إن الأمر كما قال أبو حامد الغزالي: " اعلم أن معنى التفكير هو إحضار معرفتين في القبل لا يستمر منهم معرفة ثالثة .... والمعارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت فيه على ترتيب مخصوص أثمرت أخرى، وهكذا تتمادى العلوم إلى ما لا نهاية ".

 

إن أساس نشوء الحضارات وازدهارها ليس هو القوة العسكرية كما قد يتوهم الكثير، ولا القوة الاقتصادية ولا السياسية... تلك نتائج وليست مقدمات، إنما الأسس ثلاثة:

ü  شعور بالهوية واعتزاز بها.

ü  معنويات مرتفعة.

ü  انفتاح على خبرات الشعوب وعلومها وجعلهما خادمتين للدعامتين السابقتين (الهوية والمعنويات).

 

 

11 الختلاف ، وجهات النظر ،

مواضيع ذات صلة