العدد الرابع عشر مقالات

لغويات قرآنية 6 / مقالات

18/02/2022

د.بسام مصباح الأغبر

ما الفرق في التقديم والتأخير في الموضعين الآيتين؟ 

قال تعالى في سورة النساء:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}

وقال في سورة المائدة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} 

عند معالجتنا، أو، محاولة فهمنا لكلام الله تعالى، يجب أن نراعي أمراً مهماً جداً، وهو أن النص القرآني كل لا يتجزأ، وإن كان كلمة أو آية أو سورة، فالقرآن الكريم كله يُعامل كأنه سورة واحدة، وهنا، يجب أن نقف أمام السياق القرآني المراد تحليله، بمعنى أن نعود إلى الآيات السابقة والآيات اللاحقة، حتى نفهم المراد القرآني.

عند تحليل الفرق في التقديم والتأخير بين هاتين الآيتين، نجد:

١. في آيات سورة النساء، نجد أن السورة، في معظمها، مبنية على الأمر بالعدل، وأداء حقوق العباد، وحقوق الرجل والمرأة؛ فلما ﺫﻛَّﺮ المؤمنين ﺑﺎﻟﻨﻌﻤﺔ ﻋﻘﺐ ﺫﻟﻚ ﺑﻄﻠﺐ اﻟﺸﻜﺮ ﻟﻠﻤﻨﻌﻢ ﻭاﻟﻄﺎﻋﺔ ﻟﻪ، ﻓﺄﻗﺒﻞ ﻋﻠﻰ ﺧﻄﺎﺑﻬﻢ ﺑﻮﺻﻒ اﻹﻳﻤﺎﻥ اﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻨﺒﻊ اﻟﻨﻌﻢ اﻟﺤﺎﺻﻠﺔ ﻟﻬﻢ، ﺛﻢ ﺃﺭﺩف ﺑﺄﺣﻜﺎﻡ اﻟﻤﻌﺎﻣﻠﺔ ﺑﻴﻦ اﻟﺮﺟﺎﻝ ﻭاﻟﻨﺴﺎء، ﻓﻜﺎﻥ اﻷﻫﻢ ﻓﻴﻬﺎ الأمر باﻟﻌﺪﻝ ﻓﺎﻟﺸﻬﺎﺩﺓ، فقال تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا (136) ﴾.

فقدم قول (القسط) ليناسب ما ذكر. 

٢. آيات سورة المائدة: ﻭردت ﺑﻌﺪ اﻟﺘﺬﻛﻴﺮ ﺑﻤﻴﺜﺎﻕ اﻟﻠﻪ، ﻓﻜﺎﻥ اﻟﻤﻘﺎﻡ اﻷﻭﻝ للحض ﻋﻠﻰ اﻟﻘﻴﺎﻡ ﻟﻠﻪ، ﺃﻱ اﻟﻮﻓﺎء ﻟﻪ ﺑﻌﻬﻮﺩﻫﻢ معه، وفي سياق هذه الآيات حديث عن ضرورة صدق التعامل مع الآخرين، ذلك الصدق القائم على تأدية الأمانة دون حيف أو جور: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}

وبذلك قدم (ﺷﻬﺪاء ﺑﺎﻟﻘﺴﻂ)، ﺃﻱ ﺷﻬﺪاء ﺑﺎﻟﻌﺪﻝ ﺷﻬﺎﺩﺓ ﻻ ﺣﻴﻒ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﺃﻭﻟﻰ ﺷﻬﺎﺩﺓ ﺑﺬﻟﻚ ﺷﻬﺎﺩﺗﻬﻢ ﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، وتكون هذه الشهادة، كما قال عطاء: ﻻ ﺗﺤﺎﺏ ﻓﻲ ﺷﻬﺎﺩﺗﻚ ﺃﻫﻞ ﻭﺩﻙ ﻭﻗﺮاﺑﺘﻚ، ﻭﻻ ﺗﻤﻨﻊ ﺷﻬﺎﺩﺗﻚ ﺃﻋﺪاءﻙ ﻭﺃﺿﺪاﺩﻙ، ﻭﻓﻴﻪ ﺗﻨﺒﻴﻪ ﻋﻈﻴﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻭﺟﻮﺩ اﻟﻌﺪﻝ ﻣﻊ اﻟﻜﻔﺎﺭ اﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﺃﻋﺪاء اﻟﻠﻪ، وﺇﺫا كانت ضرورة تأدية العهد ﺑﻬﺬﻩ اﻟﺼﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻮﺓ، ﻓﻤﺎ اﻟﻈﻦ ﺑﻮﺟﻮﺑﻪ ﻣﻊ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﺃﻭﻟﻴﺎﺅﻩ ﻭﺃﺣﺒﺎﺅﻩ؟

والله تعالى أعلم.

العدد الرابع عشر لغويات قرآنية 6