العدد السادس عشر تأملات إعلامية

النقطة المستضيئة إعلاميا (فلسفة الضياء والنور في بناء شبكة العلاقات) / تأملات إعلامية

20/02/2022

د. طه احمد الزيدي

في الحقيقة القرآنية أن الضياء مصدره ذاتي، والنور مصدره عاكس، وهذا معتمد في الإعلام ، ولذلك تميزت العملية الاتصالية للرسالة السماوية بأن الطرف الاول فيها يتألف من ثلاث مراتب: المصدر والمرسل والقائم بالإعلام، فالمرسل يتلقى محتوى الرسالة من المصدر بواسطة الوحي، وهو بدوره يقوم بالتبليغ، ويأتي من بعده من يقوم بالتبليغ عنه فيؤدي دوره الإعلامي بما يوجهه به وإليه المرسل، فهو يضيء بنور الرسالة الذي يتلقاه من المرسل، ويمكن ان نطلق عليه في منظومة الشبكة الإعلامية أو شبكة العلاقات العامة (النقاط المستضيئة)، التي تتلقى الحق لتسترشد به وترشد غيرها إليه، وبذلك تستقطب جمهورا محددا لتربطه بالمرسل، ويكون شدة استقطابها مبنيا على قوة النور الذي استضاء فيها من المرسل وقوة انبعاثه منها، ومن أروع الأمثلة على النقاط المستضيئة في الدعوة الإسلامية أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

فقد نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، بمجرد أن عرضت الرسالة عليه من قبل صاحبه محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بها، وكان رجلا مألوفا محببا سهلا، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه، لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان، وطلحة بن عبيد الله التيمي، فكان هؤلاء النفر الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام، ثم أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم المخزوميان، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوي، وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت وعبد الله بن مسعود الهذلي وخلق سواهم، وأولئك هم السابقون الأولون، وهم من جميع بطون قريش، وكانوا من الأحرار الذين أسلموا طواعية إيمانا بالرسالة وتصديقا بالمرسل.

الطبيعة التأثيرية للخطاب الإعلامي 

لكل مرحلة في الدعوة خطابها الإعلامي الملائم لها، بما يتناسب مع مبدأ التدرج في التبليغ ومراعاة الاولويات في ترتيب المحتوى الإعلامي للرسالة، ويتوافق مع قدرات المتلقين وفهومهم ولاسيما إن كان كل ما في المحتوى جديد ومبهر وعميق ومؤثر مبنى ومعنى ومنتهى.

وتتأكد هذه المعاني من خلال تحليل محتوى الخطاب القرآني في الدعوة السرية، مثل سورة العلق والمدثر والمزمل، والتكوير والاعلى والماعون والقيامة والفجر والطارق والبروج والقمر ومريم وطه والواقعة، وغيرها.

لقد دخلت المجموعة الاولى الى الإسلام سرا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم ويرشدهم إلى الدين متخفيا؛ لأن الدعوة كانت لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع وحمى نزوله بعد نزول أوائل المدثر، يقول المباركفوري في كتابه الرحيق المختوم: وكانت الآيات والسور التي تنزل في هذا الزمان آيات قصيرة، ذات فواصل رائعة منيعة، وإيقاعات هادئة خلابة تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق، تشتمل على التوحيد وما فيه من جلال العبودية والربوبية والاسماء والصفات العلية ، وتحسين تزكية النفوس، وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا، تصف الجنة والنار كأنهما رؤى عين، تسير بالمؤمنين في جو آخر غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك. 

فكان لهذه الآيات والسور على محدوديتها تأثير بالغ في نفوس المتلقين واستمالة لقلوبهم وعقولهم معا، لتعزيز استجابتهم، حتى وصف بعض علماء الدراسات القرآنية اعجازها بالإعجاز التأثيري او الوجداني، يقول الخطابي: (وفي إعجاز القرآن وجه آخر، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس)، وهذا ما عزز الاستجابة السريعة للرعيل الاول واستمالتهم للدعوة ، فقد كان للآيات والسور القرآنية المكية تأثير بأسلوبها على سامعها وقارئها، فما أن يستمع المتلقي آيات من الذكر الحكيم، إلا ويشعر في نفسه وقعا خاصا، ويحس في قلبه تأثيرا خاصا، وسلطانا عجيبا، يأخذ بلبه ولسانه الى الايمان بالله ورسوله تصديقا واقرارا وامتثالا.

 

العدد السادس عشر النقطة المستضيئة إعلاميا (فلسفة الضياء والنور في بناء شبكة العلاقات)

مواضيع ذات صلة