العدد الرابع تأملات إعلامية

السيطرة على الجمهور والتلاعب بالعقول في قصة إبليس مع آدم / تأملات إعلامية

11/11/2020

د. طه احمد الزيدي

مما لا شك فيه أنّ العملية الاعلامية لها طرفان مصدر ومتلقي، مرسل وجمهور مستقبل، ويمثل الجمهور هدف هذه العملية، ويمكن أن نحدد طبيعتين للعلاقة بين المصدر والجمهور: الأولى: بيان وتبليغ من المصدر إلى الجمهور، من غير إكراه له على رسالته، ولا فرض وصاية عليه من المرسل القائم بالتبليغ، فهو مُبَلِّغ وليس بوكيل عليهم، وهذه علاقة الرسل مع أقوامهم، الإعلام بالرسالة من غير إكراه، قال تعالى: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) (يس)، (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (ال عمران: 20)، (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، وهذا سبيل الاعلام الهادي المستقيم الثانية: السيطرة على الجمهور، والاستحواذ على عقله، وتوجيه موقفه لما يريده القائم بالإعلام، وليس الحق الذي يريده الجمهور، وهذا ما قام به إبليس لدفع آدم وزوجه لما يريد، ( لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) على وفق خطط إعلامية مدروسة، تعرضها سورة الاعراف، وهي: 1- التشويش وزعزعة الأفكار الأصيلة: وهو ما يقوم به القائم على الإعلام المضلل، (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ)، (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)، ومعلوم أن النفس البشرية مجبولة على التفاعل مع الأفكار الجديدة، والرغبة في تجريبها، ولاسيما إن كانت ضمن دائرة اشباعاتها. 2- تعزيز تقبل الجديد: بتوظيف استحقاقات المصدر الأصل بالنسبة للجمهور المتلقي، مع إظهار النصح والشفقة والاهتمام لتحريك الدافع النفسي بقصد نسف الفكرة الأصلية وخلق الرغبة في البحث عن الجديد، (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)، فبدأ بالقسم بالله وشرع في تأكيد أنه ناصح لهما زيادة في الترغيب، ولم يذكر لهما بديلًا، ولم يظهر أنه ذو مصلحة شخصية، موظفا الخطاب الاستمالي، ومستغلا عاطفة عدم تصور استغلال المقدس، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: غرَّهما باليمين، وكان آدم لا يظن أن أحداً يحلف بالله كاذباً. 3- الارشاد نحو البديل: من خلال الخطاب الايحائي بالإشارة الى البدائل من غير تبني لها ولا التصريح بوجوب الأخذ بها، مكتفيا بالنصح والإرشاد مع شيء من الإغراء للإغواء، (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ)، وجمعهما بالبديل وتركهما معا، بعد أن حرك الرغبة نحو طلب الجديد، وهو واثق من الوصول إلى النتيجة التي خطط لها. حتى في خلق البدائل كان ذكيًا في الطرح: فلم يقل لهما هذه الشجرة هي الأفضل فكلا منها وأوجب عليهما رأيه، بل قام فقط بالإشارة إليها، وكأنه مجرد ناصح لا يلزم أحدًا برأيه ألقى إليهما بالبدائل وتركهما مع تحريك الرغبة في تحقيق الاشباع (وهو الخلد).

ونتيجة لهذه المراحل الثلاث التي انتقل، خلالها، إبليس القائم على الإعلام المضل المنحرف بتسلسل وذكاء، وشكّل عندهما فكرًا جديدًا وسلوكا محدثا (ذَاقَا الشَّجَرَةَ ) (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) وهو مخالف للفكر الأول الاصيل والتوجيه السديد، ومباين للسلوك القويم المطلوب، وفعل الممنوع بعد تحوله الى مرغوب، (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).

هذه الخطوات هي بعينها التي يتبعها القائمون على الإعلام في تلقين الجمهور أفكاره الجديدة، لتشكّل صورة نمطية لديه يسيرون عليها جميعا، في سيطرة خفية على الجمهور، وتلاعب متقن بعقولهم، فيتم تشكيلها لتصبح مستنسخة لما يراد منها، وليست منتجة لجديد من الأفكار أو محافظة على الفكر الاصيل، وبذلك يشكل الإعلام الموجه ضغطًا شديدا على الجمهور؛ ليصبح الرأيُ العام هو ما يريده الإعلامُ ولو كان باطلا وضلالا، لا ما يريده الجمهور ولو كان حقا وخيرا.

وبذلك يكون القرآن الكريم قد سبق في التنبيه إلى أساليب وسائل الاعلام في السيطرة على الجمهور والتلاعب بالعقول.

 

العدد الرابع العملية الاعلامية ، السيطرة على الجمهور، ابليس ، آدم

مواضيع ذات صلة