مدونة بروفسور دكتور. وائل أحمد خليل صالح الكردي


(ديار هاديس) أو السجن وراء الذت في رواية (الهوتة) 1/ 3

أ.د. وائل أحمد خليل صالح الكردي | Prof.Dr. Wail Ahmed Khalil Salih AlKordi


14/12/2024 القراءات: 58  


هل تُرى أن الفيلسوف توماس هوبز كان حقاً صادقاً في مقولته المشهورة بكتابه (التنين) أن (الإنسان ذئب على أخيه الإنسان، والكل في حرب ضد الكل) وأن (الخوف) هو ذاك التنين الذي يقهر الإنسان في طغيانه لأن يتنازل عن النصيب الأكبر من حريته المطلقة على الأرض في مقابل البقاء على قيد الحياة والحفاظ على النسل البشري من الاندثار جراء ويلات الحروب وسفك الدماء. لم تكن رواية (الهوتة) -لمؤلفتها الكاتبة السورية نجاح إبراهيم- سرداً واقعياً وصفياً لأحداث وقعت بالفعل، ولم تكن أيضاً سرداً وصفياً لواقع متخيل، وليست هي كذلك مرجعاً للتعريف بأنواع التعذيب للبشر لدى الجماعات الاجرامية، وإنما كانت رواية (الهوتة) تجسيداً درامياً لحالات نوعية من التفاعل الإنساني أمام مشهد معاش وحدث واقعي هو الحرب في سوريا وإرهاب (الدواعش) هناك في لمحة من تحقق أكيد لمقولة هوبز أن (الإنسان ذئب على أخيه الإنسان) لمن قست قلوبهم بالانحراف عن صراط الدين القويم بفهم خاطئ فتكون كالحجارة أو أشد قسوة. ومن هذه الواجهة الدرامية أيضاً، لم تكن هذه الرواية كما أفلام (الآكشن) التي تعتمد على شدة تأثير الوقائع العنيفة في استثارة الجوارح بعاطفة طاش صوابها وهي تنتظر ما سيحدث في اللحظة تلو اللحظة، بل كان الملفت للانتباه بنحو بارز في الرواية تلك التفاعلات والانفعالات الإنسانية أمام وقائع أشبه بوقائع أفلام (الاكشن). هذه التفاعلات الإنسانية في الرواية بكونها أحوال مطلقة يمكن تجريدها على كل زمان ومكان مراد لها أن تشعل معها حالة تفاعلية وجدانية ممتدة لدى القارئ ليستشعر قيمة معينة وسبيلاً نحو نعمة عيش الحياة بغير حرب. وإذا كان لكل عمل روائي أو مسرحي أو شعري أو درامي عموماً (مقدمة منطقية) -على نحو ما ذهب لاجوس اجري في كتابه (فن كتابة المسرحية)- هي الفكرة الأساسية للعمل الفني تسود كخيط متصل ناظم كل تفصيلاته وتحولات الأحدث فيه على وحدة نسقية محققة لهدف هذه الفكرة الأساسية أو المقدمة المنطقية؛ فإنها بالضرورة تتبع لسقف الحقل الدلالي الكلي المرن للسياقات المكونة للعمل الأدبي وهو قيمة الفن في هذا العمل. فالكاتب أو المؤلف للرواية قد يريد بها مقدمة منطقية معينة، ولكن سقف الحقل الدلالي المرن فيها من الممكن أن يجعل لدى القارئ فرصة أن يرى فيها –وداخل إطار حقلها الدلالي هذا نفسه- مقدمة منطقية على نحو آخر وفي اتجاه مغاير لرؤية المؤلف ولكنها تشترك معها في الانتماء لنفس الاطار الكلي. وبقدر ما تكون المرونة الدلالية المسموحة للتراكيب والسياقات النصية والتعبيرية في الرواية أكبر، بقدر ما تكون الروية أعلى في درجات الجودة والتأثير ويكتب لها الخلود. من هذا الباب يمكن أن تسمح لنا مرونة السقف الدلالي لرواية (الهوتة) برؤية مقدمة منطقية أو فكرة أساسية حتى ولو لم تكن حاضرة بذاتها في غرض الكاتبة أو جمهور المتلقين والنقاد الآخرين والذين يمكن أن يكون لديهم رؤاهم المغايرة. والمقدمة المنطقية التي يمكن ابرازها هنا هي على مستوى فلسفي تأملي نوعاً ما، مفادها (أن السجن الحقيقي للإنسان هو السجن وراء الذات، وهو الأكبر إحاطة به والأشد إحكاماً في القيد عليه). فيمكن أن نستنبط من ثنايا رموز رواية (الهوتة) ثلاثة أنواع أو درجات للسجن، أدناها (السجن وراء القضبان) بكل ما فيه من حرس وجنود وأعمال تعذيب جسدي ومظاهر أخرى عديدة –بنحو ما ورد في الرواية عن ظروف سجن حامد وسجن بهار- وربما كان السجن وراء القضبان بغير قضبان، كأن يكون كسجن بطل قصة أنطون تشيخوف (الرهان) الذي سجن نفسه بإرادته في تحد له مع غريمه وأحاط نفسه في سجنه هذا بكل ضروب الكتب، وكسجن بطل رواية (الهوتة) في سجن بيلا السيدة الثرية التي تقبض على زمام الأمور (أنا في بيت هذه السيدة جنة مغلفة بالجحيم وخارجه جحيم في جحيم - الهوتة). وأوسط درجات السجن هي (السجن وراء المجتمع) الذي يفرض على الإنسان عزلاً عقابياً سواءً كان برفض المجتمع لهذا الإنسان لشذوذ فيه أو بعدم قدرة الإنسان على التوافق والتأقلم مع متغيرات واتجاهات مجتمعه ذاك، ومن مثل هذا ما يصبه من ظروف الحرب (وأعلى درجات السجن هي (السجن وراء الذات) هو وهم كبير يعصف بعقل ووجدان الإنسان فلا يعيش بحقيقته ولا بحقائق الأشياء من حوله حيث يختلط فيه، ليس الوعي واللاوعي كما قال فرويد وأئمة مدرسة التحليل النفسي، وإنما ما يمكن تسميته (الوعي الإرادي) و(الوعي اللاإرادي) فلا يدرك أين ينتهي الخيال ليبدأ الواقع وأين ينتهي الواقع ليبدأ الخيال وأين الحدود لما قصد إليه هذا المسجون وراء ذاته بإرادة واعية وما يفرضه عليه الوعي بغير إرادة قصدية منه (جئنا بها إلى بيتنا لتعيش معنا، ولكنها لم تبق أكثر من يومين، وهي مازالت تخيط دمىً من قماش وتدعي أنها بناتها، يبكين من الجوع والعطش، فتهرع إلى ارضاعهن من ثديها، صار لديها أكثر من أربعين بنتاً، والبارحة دفنت إحداهن قائلة وهي تنتحب: لقد ماتت ابنتي من الجوع.. مؤلم للغاية أن تمضي عفراء بقية حياتها بهذا الشكل - الهوتة)، هذا السجن الأخير هو أقسى وأصعب أنواع السجون وهو ما تولده مآسي الحروب لدى من يعايشونها، والمقصود بكلمة (المعايشة) هنا هو تغلغل أثر الحرب في أدق تفاصيل حياة الإنسان حتى ليصبح بالغرق الكامل فيها أنه هو الحرب وأن الحرب هو، وسواء كانت بسجن للظالم وراء ذاته بساديته الوحشية أو كانت سجن للمظلوم وراء ذاته بقهره النفسي. لقد عبرت (الهوتة) بشكل درامي ابداعي بارز عما يحدث في السجن وراء الذات عبر كل وقائعها وتحولاتها وأحداثها، ولعلها تقول تعبيرياً بغير ألفاظ مباشرة عن كيف هي قسوة هذا النوع من السجن الذي يكون من العسير الشاق التحرر منه بغير فقدان الحياة نفسها. فالسجن وراء المجتمع قد يتحرر منه الإنسان بالتمرد على نظم وقوانين وقواعد هذا المجتمع أو بالاغتراب عنه الى مجتمعات أخرى (بينما اتابع بين الحين والآخر من النافذة الضيقة وبعينين دامعتين أرض الوطن وهي تبتعد، لأبتعد معها فأكون أقرب إلى السماء - الهوتة). 


الهوتة ، هاديس ، السجن ، الذات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع