مدونة عبدالقوي مكرد طارش القدسي
النهضة المنشودة د عبدالقوي القدسي
عبدالقوي مكرد طارش القدسي | Abdulqawi Mukred Taresh Al-qadasi
10/02/2020 القراءات: 2583
تتميز الحياة بالحركة الدائمة الدائبة. إنها لا تسكُن أو تتوقف حزناً على موت أحد أو ابتهاجاً بميلاد آخر.
يمر الإنسان بمرحلتي ضعف تتوسطهما قوة، وكذلك تمُر الدول والأمم والحضارات.
ما إن تدبُّ عوامل الانهيار في أمة إلا وبدأت عوامل القوة بالظهور في أمة أخرى.إنها دورة الحياة، أو بالأحرى سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
لا يمكن عزل أي نهضة عن محيطها، ولا يمكن قيام نهضة منقطعة الصلة عن ماضيها، وثقافتها .
من شعاب مكة التائهة في غيابة التاريخ، المحاطة بالأعراب والقبائل المتناحرة، انبثق نور حضارة إنسانية جديدة.
كان العالم إذ ذاك تتقاذفه قوى عالمية ظالمة لم تعد مؤهلة للبقاء، وما أصدقَ وصف أحمد شوقي؟! :
أتيتَ والناس فوضى لا تمر بهم.
إلا على صنمٍ قد هامَ في صنم.
مُسيطرُ الفرس يبغى في رعيته.
وقيصر الروم من كبرٍ أصمّ عمِ.
الإشارة في القرآن إلى حضارات عاد، وثمود والفراعنة، وأمم أخرى فيه تأكيد على اتصال الحضارات ببعضها، وقد لاحظنا اتصال الحضارة الإسلامية بحضارتي فارس والروم، وكذلك انصال حضارة أوروبا، ونهضتها بالحضارة الإسلامية في الأندلس.
شهدت البشرية لحظة ميلاد أعظم الحضارات الإنسانية، وهي حضارة الإسلام، وفي المقابل شهدت لحظة أفولها، وكما كان للنهضة أسباب فلقد كان للافول أسباب أيضاً!!
يقول البعض : "سِرُّ تخلفنا هو ابتعادنا عن ديننا" ويقول آخرون : "الدين هو سبب تخلفنا" . كِلا الفريقين مجانبٌ للصواب، فليس هناك ثمة أساس منطقي يدعم القوْلين . ولعلنا بحاجة ماسة إلى مراكز أبحاث متخصصة تضع يدها على الداء، وتصف الدواء.
كم نحن بحاجة إلى أن تتوجه الجهود نحو دراسة أسس النهضة، والسير الحثيث لتحصيل أسبابها؟!!!
التدين عنصر أصيل في ثقافة المسلمين؛ فلا يمكن القفز عليه أو إقامة نهضة على أنقاضه.
فأوروبا لا تزال محافظة على هويتها الدينية المسيحية رغم خوضها حرباً ضروساً ضد الكنيسة الحاكمة باسم السماء، وغاية ما أفرزته نهضة أوروبا هو إعادة رسم دور رجال الدين في الحياة، وفك الاشتباك بينها، وبين العلم الحديث، والعلماء .
جمود طائفةٍ من المتدينين على الخطاب الديني التخديري، والتبريري ومحاولة إقناع الناس بأن نهضتهم معتمدة على إعادة عجلة الزمان إلى الماضي العتيق هو ضرب من الأوهام، واستغراق في الأحلام.
لنا أن نتساءل عن أثر الخطاب الذي يربط نهضة الأمة بعودة المهدي، ونزول عيسى عليه السلام؟!!!!!!
قرأت قبل فترة مقالاً يتحدث عن كوريا الشمالية، وبأنها تمتلك قنبلة مغناطيسية، وهذه القنبلة الخارقة حال دخولها المعركة فإنها ستقضي على التكنولوجيا الحربية، وستأتي على الطاقة من جذورها، وحينئذ سيغرق العالم في الظلام، ويعود الناس للقتال بالسيوف، والنبال على ظهور الخيول والجمال، حينئذ سننتصر...نعم،حتماً، سننتصر !!!! نسي صديقنا الباروت، فإنه غير مرتبط بتكنولوجيا الحرب القابلة للتدمير بالقنبلة الكهرومغناطيسية !!! لا مشكلة، فبالتأكيد صديقنا لديه الحل، فلننتظر !!!
إن نهضة أمتنا اليوم تحتاج إلى إعادة بناء الإنسان؛ لتأخذ دورها من جديد ضمن دورة حياة الأمم والحضارات، ولا شك أن هذا البناء لن يكون في جزر نائية عن العالم، ولا في عالم الخيال والأحلام .
في كتابه "شروط النهضة" يذهب مالك بن نبي إلى أن أي حضارة تمر بمراحل ثلاث، فالمرحلة الأولى هي مرحلة الروح، والثانية مرحلة العقل، والثالثة مرحلة الغرائز، وعندها يبدأ انهيار الدول والحضارات .
ابن خلدون في "المقدمة" يتحدث عن ثلاثة أجيال للدول، فالجيل الأول -المؤسس- يمتاز بهمة عالية، وصبر وتضحية، بينما الجيل الثاني - جيل الأبناء- ينجح في ترسيخ دعائم الدولة، ويبدأ في قطف ثمارها، ويأتي جيل -الأحفاد- وقد نسي تضحيات المؤسسين وهمة الآباء في البناء، فتضيع البوصلة، ويبدأ في إطلاق الغرائز، والشهوات وعندها تبدأ الدولة في السقوط والانحدار. يقول ابن خلدون عن جيل السقوط:" ينسون عهد الخشونة، ويحاولون إظهار القوة من خلال احتكار السلاح، والجيش لقمع الناس ".
ما ذهب إليه ابن خلدون مرتبط باستقرائه للقديم من الدول والحضارات، ولو عاش أيامنا هذه لربما تغيرت نظرته، ولاكتشف أسباباً أخرى لنهضة الدول وسقوطها .
العالم المتحضر اليوم بلغ شأناً كبيراً في كثير من جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية، ولكن هذه الحضارة، ووفقاً لمبدأ الصعود والهبوط لا شك سائرة إلى أفول. والأمة الوارثة للحضارة يجب أن تقوم بعملية فاحصة لتمييز الخبيث من الطيب، فتأخذ بالطيب، وترمي بالخبيث إلى مزبلة التاريخ.
إننا ننشد نهضة لأمتنا تتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية، والدينية، وتتجاوز أزمة الحضارة الحالية، وتؤسس لمستقبل أفضل بقيمٍ جديدة تجمع بين الروح والمادة في آن واحد، لنقدم للعالم أنموذجاً حضارياً فريداً. ونرجو أن يكون قريباً.
النهضة - المنشودة - الأمة - ابن خلدون - العالم المتحضر- الخطاب الديني -الخبيث -الطيب
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع