مدونة أحمد على محمد على


الإرشاد: رحلةٌ إلى أعماق الإنسان

أحمد على محمد على | Ahmed Ali Mohammed Ali


07/12/2024 القراءات: 133  


الإرشاد: رحلةٌ إلى أعماق الإنسان
على مشارفِ الفوضى التي تعصفُ بحياةِ الإنسانِ المعاصرِ، حيثُ تتسارعُ الأيامُ لتبتلعَ الأحلامَ، وحيثُ يصطدمُ العقلُ بأسئلةٍ لا تنفكُّ تتكاثر، يبرزُ الإرشادُ كفعلٍ إنسانيٍّ عميقٍ يتجاوزُ كونهُ مجردَ حوار. هو أشبهُ برحلةٍ تنطلقُ إلى أغوارِ الروح، حيثُ يلتقي الإنسانُ بذاتِه للمرةِ الأولى، ويوجهها بصدقٍ، بلا أقنعةٍ ولا رتوش. الإرشادُ هو ذلكَ الضوءُ الخافتُ في نهايةِ نفقٍ طويل، لا يزيلُ الظلامَ تمامًا، لكنه يكشفُ الطريق.
ليستِ العمليةُ الإرشاديةُ سردًا لحقائقَ أو تعليماتٍ جاهزة، بل هي مرآةٌ تتجاوزُ انعكاسَ الملامحِ السطحية. هي مرآةٌ ترى في الإنسانِ كيانًا متكاملًا من العقلِ والوجدانِ والجسد، كنسيجٍ حيٍّ تتشابكُ فيه الخيوطُ بينَ الماضي والحاضر، بينَ الأملِ والخيبة، وبينَ السؤالِ والبحثِ عن الإجابة. إنها دعوةٌ للتأملِ في هذا التشابك، لا لفكِّ عقدِه، بل لفهمِها واستيعابِها.
الإرشادُ لا يُبنى على النصائحِ الجاهزةِ أو الحلولِ المعلّبة. إنه يستندُ إلى مبدأ التقبُّل، ذلكَ الفعلِ الذي يفتحُ ذراعيه ليحتضنَ الإنسانَ كما هو، بكلِّ ما يحملهُ من تناقضات. هنا، لا مكانَ للحُكمِ أو الإدانة. فالإرشادُ يخلقُ مساحةً آمنةً، مساحةً يستطيعُ فيها الإنسانُ أن يكشفَ عن ذاتهِ دونَ خوفٍ، أن يعترفَ بضعفهِ كما يعترفَ بقوتِهِ. هذهِ المساحةُ ليستْ مجردَ إطارٍ زمنيٍّ أو مكانيّ، بل هي عقدٌ أخلاقيٌّ يستندُ إلى قدسيةِ السرية، تلكَ اللحظةِ التي يُقالُ فيها ما لا يُقالُ خارجَها، ويبقى في أمانٍ لا يختلُّ.
لكنَّ الإرشادَ ليس ملاذًا للضعفِ فقط، بل هو ساحةٌ لبناءِ القوة. هو ليس حلًّا يُقدِّمهُ المُرشِدُ في صيغةٍ جاهزة، بل هو مفتاحٌ يمنحُ العميلَ القدرةَ على فتحِ أبوابٍ ظلَّت مغلقةً طويلًا. إنه تمكينٌ يجعلُ الفردَ قادرًا على مواجهةِ تحدياتهِ بنفسِه، على اكتشافِ مصادرِ قوتهِ، وعلى استخدامِ أدواتهِ الخاصةِ لإعادةِ صياغةِ حكايةِ حياتِهِ.
وفي هذهِ الرحلة، لا يسيرُ المُرشِدُ نيابةً عن العميل، ولا يحملُ عنهُ عبءَ الرحلة. المُرشِدُ هنا رفيقُ طريقٍ، يُضيءُ المصابيحَ في اللحظاتِ المظلمةِ، لكنه لا يتقدمُ خطوةً إلا بقدرِ ما يختارُ العميلُ أن يسير. هذهِ الرحلةُ ليستْ سلسةً أو خاليةً من الألم، بل هي مليئةٌ بلحظاتِ الانكسارِ والشكِّ. لكنها في جوهرِها طريقٌ نحوَ الشفاء، نحوَ التوازن، نحوَ إعادةِ اكتشافِ الذات.
الإرشادُ، إذن، هو أكثرُ من تقنيةٍ أو مهنة. إنه فلسفةُ حياة، رسالةٌ إنسانيةٌ عميقةٌ تُعيدُ تشكيلَ العلاقةِ بينَ الإنسانِ وذاتِه. إنه دعوةٌ للتصالحِ معَ الجوانبِ المظلمة، للقبولِ والتقدير، وللتحليقِ في فضاءٍ أكثرَ اتساعًا.
في نهايةِ المطاف، الإرشادُ ليس وجهةً يصلُها الإنسان، بل هو طريقٌ يستمرُّ. إنه تلكَ اللحظةُ التي يرفعُ فيها الفردُ عينيهِ عن مشكلاتِهِ ليكتشفَ أفقًا أوسعَ، مليئًا بالفرصِ والإمكانيات. ليستِ الغايةُ أن يُعطى الإنسانُ خريطةَ طريق، بل أن يتعلمَ كيفَ يرسمُها بنفسِهِ، بخطوطٍ يختارُها هو، وبألوانٍ تنبضُ بواقعِهِ وأحلامِهِ.
إنه لقاءٌ بينَ عقلين، بينَ قلبين، بينَ إنسانٍ يحاولُ الفهمَ وآخرَ يُساعدُه على رؤيةِ المعنى. وفي هذا اللقاء، يتجلى الإرشادُ في أسمى صورِهِ: فعلٌ إنسانيٌّ يربطُنا بجوهرِنا، يُذكِّرُنا أنَّ القوةَ لا تعني غيابَ الضعف، بل تكمنُ في الجرأةِ على مواجهتِهِ.
"الإرشاد هو أن ترى نفسك كما لم ترها من قبل، وتكتشف الطريق بداخلك قبل أن تبحث عنه خارجه."


الإرشاد


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع