مدونة الشاعر والناقد عبد الله هريدي
فنون التمثيل في الحضارة الإسلامية - ج1
عبد الله رمضان خلف مرسي | Abdullah Ramadan Khalaf Morsy
01/08/2021 القراءات: 4859
لعل فن العربية الأول وهو الشعر طغى على ما سواه من فنون؛ خصوصا تلك الفنون التي لم تحظ باهتمام واضح ربما لاعتبارات دينية ومنها فن التمثيل؛ وقد جاءتني فكرة الكتابة في مثل هذا الموضوع أثناء شرحي لطلابي في الجامعة بعض فصول الأدب المقارن، وكان مما ناقشته معهم مدى معرفة العرب لفن المسرح، وتعددت الآراء في هذا الشأن ومال أكثرها إلى أن العرب لم يعرفوا فن المسرح لأن المسرح الإغريقي كان يعتمد أساسًا على فكرة الصراع بين الآلهة، أو بين الآلهة والبشر، وغير ذلك من وثنيات يرفضها الإسلام.
وبعد بحث توصلت إلى نصوص تراثية متعددة، قدر الله أن أجد أكثرها في كتاب مهم تناول موضوع التمثيل لدى العرب، وهو بعنوان: "فن التمثيل عند العرب" للدكتور محمد حسين الأعرجي، وهو من منشورات وزارة الثقافة والفنون بالعراق، نشر عام 1978م.
وقد سبقه في تناول مثل هذا الموضوع أكثر من مؤَلَّف، وقد أشار إلى ذلك في مقدمته، ومن هذه الكتب والأبحاث: "المباحث اللغوية في العراق ومشكلة العربية العصرية" للدكتور مصطفى جواد، "العرب والمسرح" لمحمد كمال الدين، "العرب وفن المسرح" للدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي.
ومن أصحاب هذه المؤلفات -كما ذكر الدكتور الأعرجي- من بالغ في نظرته فجعل كل حدث في حياة العرب تقريبا مسرحا ومن ذلك أسواقهم كعكاظ ودومة الجندل والمربد، وحكايات ألف ليلة وليلة، وهو ما قال به كمال الدين، أما الدكتور الحجاجي فقد كان مهتما أكثر ببيان أسباب جهل العرب بفن المسرح.
ولا ندّعي أن العرب عرفوا تلك الفنون التمثيلية بالكيفية التي كانت قد تبلورت لدى الإغريق، فهم ليسوا مطالبين بهذا كما أن أي أمة ليست مطالبة أن تكون معاييرها ومقاييسها في الآداب والفنون مرتبطة بأمة أخرى، فالشعر والنثر والموسيقى والفنون البصرية تكاد تكون قد ملأت حياة العرب، ومثلت أبرز ما خلفوه من تراث فني.
ولا يعني هذا أن التمثيل بتنويعاته المختلفة لم يكن له وجود في حياتهم، بل كان موجودا وتجلى في أكثر من شكل، غير أنه لم يلق الاهتمام والتطوير الذي حظيت به باقي الفنون.
ولعل أبرز الفنون التي تندرج تحت التمثيل ووجدنا لها إشارات متناثرة في بطون كتب الأدب والتاريخ تتمثل في: فن التقليد، والتمثيل الهزلي، والتمثيل التعليمي، وخيال الظل.
فن التقليد:
أهم ما يطالعنا في هذا النمط التمثيلي ما أورده الجاحظ في البيان والتبيين، ومن ذلك قوله:
"إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم، لا يغادر من ذلك شيئا. وكذلك تكون حكايته للخراساني والأهوازي والزنجي والسندي والأجناس وغير ذلك. نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم، فإذا ما حكى كلام الفأفاء فكأنما قد جمعت كل طرفة في كل فأفاء في الأرض في لسان واحد. وتجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه، لا تكاد تجد من ألف أعمى واحدًا يجمع ذلك كله، فكأنه قد جمع جميع طرف حركات العميان في أعمى واحد.
ولقد كان أبو دبوبة الزنجي، مولى آل زياد، يقف بباب الكرخ، بحضرة المكارين، فينهق، فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير، ولا متعب بهير إلا نهق. وقبل ذلك تسمع نهيق الحمار على الحقيقة، فلا تنبعث لذلك، ولا يتحرك منها متحرك حتى كان أبو دبوبة يحركه. وقد كان جمع جميع الصور التي تجمع نهيق الحمار فجعلها في نهيق واحد. وكذلك كان في نباح الكلاب". [البيان والتبيين للجاحظ - دار ومكتبة الهلال - بيروت - 1423 هـ - ج1/77].
الجاحظ هنا يحدثنا عن أشخاص كانوا يحاكون أي يقلدون النماذج البشرية المتعددة في طريقة كلامها وحركاتها التي من المفترض أن يمثلوها بإتقان وإضحاك في الوقت نفسه، وتجاوز الأمر تقليد البشر إلى تقليد أصوات الحيوانات.
ويعلق الدكتور شوقي ضيف على نص الجاحظ فيقول: "كان للعامة ملاهيهم وفى مقدمتها الفرجة على القرّادين والحوّائين، وكانوا يتجمعون حول قصّاص يطرفونهم بحكايات خيالية، كما كانوا يتجمعون حول طائفة من الحكّائين الذين كانوا يحكون فى دقة لهجات سكان بغداد ونازليها من الأعراب والنبط والخراسانيين والزنوج والفرس والهنود والروم" [تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف –دار المعارف – 1995م- ج3/ 55].
فالحكاؤون كان لهم جمهورهم من العوام الذي يتحلق حولهم أو يتابع فنونهم ويستمتع بها.
التمثيل الهزلي:
أورد الشابُشْتِي في كتابه الديارات خبرا جرى بين إبراهيم بن إسحاق والخليفة العباسي المتوكل، ومضمونه أن المتوكل كان في مجلسه وكان بين يديه ما يمكن أن نسميه فرقة من الممثلين والمهرجين الذين يتنكرون في أزياء وأقنعة متعددة وهو سعيد بوجودهم لمشاهدة العروض التي يقدمونها، ويبدو أن الأمر حدث فيه تجاوز نتيجة تكالب الممثلين على الأموال التي كانت تلقى لهم، والنص كما أورده الشابشتي: "ودخل إسحق في يوم نوروز إلى المتوكل، والسماجة بين يديه، وعلى المتوكل ثوب وشي مثقل، وقد كثر أصحاب السماجة حتى قربوا منه للقط الدراهم التي تنثر عليهم، وجذبوا ذيله! فلما رأى إسحق ذلك، ولى مغضباً، وهو يقول: أف وتف! فما تغني حراستنا المملكه مع هذا التضييع!. ورآه المتوكل وقد ولى، فقال: ويلكم! ردوا أبا الحسين، فقد خرج مغضباً! فخرج الحجاب والخدم خلفه، فدخل وهو يُسْمِعُ وصيفاً وزرافةَ كلَّ مكروه، حتى وصل إلى المتوكل. فقال: ما أغضبك، ولم خرجت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عساك تتوهم أن هذا الملك ليس له من الأعداء مثل ما له من الأولياء! تجلس في مجلس يبتذلك فيه مثل هؤلاء الكلاب تجذبوا ذيلك، وكل واحد منهم متنكر بصورة منكرة، فما يؤمن أن يكون فيهم عدو قد احتسب نفسه ديانةً وله نية فاسدة وطوية ردية، فيثب بك! فمتى كان يستقال هذا، ولو أخليت الأرض منهم؟. فقال: يا أبا الحسين، لا تغضب! فوالله لا تراني على مثلها أبداً. وبُني للمتوكل بعد ذلك مجلس مشرف، ينظر منه إلى السماجة".
و"السماجة" هذه أطلقت على هؤلاء القوم من الممثلين، وقد علق على هذه الكلمة كوركيس عواد محقق كتاب الديارات للشابشتي بقوله: "كانت السماجة تشبه ما يعرف اليوم بـ "التمثيل الهزلي" [الديارات للشابشتي – تحقيق: كوركيس عواد – مكتبة المثنى – بغداد – 1966م- ص38-39].
هريدي، أدب، نقد، شعر، تعليم، قصة، تمثيل، حضارة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة