مدونة د. محمد سلامة الغنيمي


التفكير في معيار النجاح الحقيقي: رؤية قرآنية وإضاءات إنسانية

د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim


11/03/2025 القراءات: 18  




يقول الله تعالى في محكم التنزيل:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر: 18).
في هذه الآية الكريمة وما يليها، يُرسي القرآن مقياسًا جوهريًّا للنجاح، لا يرتبط بزخارف الدنيا وزينتها، ولا يُقاس بكثرة المال أو علوّ الشهادات أو الترقيات الوظيفية، بل ينطلق من رؤيةٍ أعمق: "استحضار الآخرة في كل خطوة"، وجعل التقوى دليلَ الطريق.

فالنجاح الحقيقي ليس منجزًا مؤقتًا يذوي بزوال السلطة أو الثروة، بل هو أثرٌ باقٍ يُثقل موازين الحسنات يوم القيامة. والتقوى هنا ليست مجرد خشية عابرة، بل "وعيٌ دائم" يربط الفرد بخالقه، فيُحكِّم ضميرَ المراقبة في أفعاله، ويستحضر عواقبَها في حياته الأبدية. وكأن الآية تُذكِّرنا بأن الإنسان مسافرٌ إلى غدٍ لا مفر منه، فإما أن يملأ حقائبه بأعمال الصلاح، أو يُضيِّع الزمن في متاعٍ فاني.

لكن كيف ينحرف الإنسان عن هذا السبيل؟ الإشارة القرآنية إلى "النسيان" تُلقي الضوء على آفة العصر: الغفلةُ عن الهدف الوجودي، واستبدالُ الجوهري بالثانوي. فالإنسان يُخدع أحيانًا ببريق المناصب أو الشهرة، فينسى أن هذه الدنيا محطة عبور، وأن رصيده الحقيقي هو ما يُختزن لرحلته الطويلة بعد الموت.

ولمواجهة هذا النسيان، تأتي "المحاسبة اليومية للنفس" كسلاح فعّال. فحين يتوقف المرء مع نفسه كل ليلة ليسأل: "ماذا قدّمت لغدي؟"، يصبح أكثر قدرةً على تصحيح المسار، وإعادة ترتيب الأولويات. كما أن تقوى الله تُزرع في القلب مراقبةً ذاتيةً تمنع الانزلاق نحو الماديات، وتحوّل العمل الدنيوي إلى عبادة عندما يُحتسب بنية الخير.

ولا ننسى أن الله تعالى خبيرٌ بأعمالنا، لا يخفى عليه شيء، مما يُضفي على حياتنا معنىً أعمق: فكل خطوة نخطوها بإخلاص، وكل تعاملٍ نُحسنه، وكل علمٍ ننشره لله، يصير لبنةً في بناء النجاح الأخروي. وهنا تكمن "الجمالية الأخلاقية" للإسلام: تحويل التفاصيل اليومية إلى فرصٍ للتقرّب من الله، واختبار الحياة كساحةٍ للعبادة والعطاء.

فليكن شعارنا: "النجاحُ قرارٌ نابعٌ من القلب"، يُترجم بتقوى تمنحنا الحكمةَ لتمييز الحق من الباطل، والقوةَ لاختيار ما ينفع في الآخرة، حتى لا نندم حين يُكشف الغطاء، وتَظهر حقيقةُ ما قدّمناه لأنفسنا قبل الآخرين.
#الغنيمي
#رؤية_للنهوض_الحضاري


تربية، فكر، نهضة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع