مدونة خالد بن فتحي بن خالد الآغا
أخطاء شائعة في المفاهيم ، ضرورة التفكيك وإعادة البناء
خالد فتحي خالد الآغا | Khaled Fathi khaled Alagha
21/08/2020 القراءات: 4125
- ثمة ثغراتٌ في بعض المفاهيم لا بد لنا من الوقوف عندها، فبعضُ ما نقرأُه في تراثِنَا سابِقِهِ ولاحِقِهِ ممّا فيه الدعْوَةُ إلى تَعْطيلِ الأسْباب؛ وبقاءِ الإنسانِ مُهْمَلاً في الحياةِ بلا هَدفٍ؛ مُعَطِّلاً لِما أَوّدَعَ الله فيها مِن المَنافِعِ تحتَ شِعاراتِ الزهدِ والتقلُّلِ من الدنيا؛ وأن الدنيا والآخِرَةَ ضُرّتانَ لا تَجْتَمِعان.
- وانْحِسارُ مَفْهُومِ الإسلامِ من كونِهِ روحاً لكلّ شُعْبَةٍ من شُعَب الحياةِ؛ حَيْثُ آضَ مفْهومُ العبادَةِ إلى تَمْتَماتٍ وأورادٍ لا تَتَجاوَزُ المِسْبَحةَ واللسان، فالعبادَةُ عملٌ يخصُّ الفردَ فحسبُ!، بينما غابَ المفهومُ الإنسانِيُّ والمجتَمَعِيُّ للتعَبُّدِ الذي يَعني السعيَ في عمارةِ الكون، وتسخيرِ ما أوْدَعَهُ الله فيه لإقامَة العدل، وتحقيقِ الرُّتْبَةِ الثانيةِ مِن رُقِيِّ الإنسانِ في مدارجِ الكرامَةِ الإنسانيّةِ شُكْرا للمُنْعِمِ على تكريمِه بالرّتْبَةِ الأولى المُشارِ إليها في الآية الكريمة (ولقدْ كرّمنا بني آدمَ وحَمَلْناهُمْ فِي البَرِّ والبَحْرِ).
- في تارِيخِنا وقعَ الفصلُ بين السلطانِ والقرآنِ تحتَ ذريعةِ الخوف من (فتْنَةِ السلطان)، وذريعةِ (إنّ السلطانَ والقرآنَ سيفتَرِقانِ، فدوروا مع القرآنِ حيثُ دار)، وقد كانَ من آثار اعتزالِ فتنة السلطانِ أن السلطانَ وقعَ في فتْنَةٍ أشدّ بافتراقِهِ عن القرآن، فعُطِّلَ العَدْلُ وعُطّلَت الحقوق، وأصبحَ (السلطانُ) حقّاً يُتَوَارَثُ، بعد أن كانَ نيابَةً عن الأمةِ في رعايةِ مصالحها، على أنّ (فدوروا مع القرآنِ حيثُ دار) لا يعني بحالٍ: دعوا السلطان يفْعَلُ ما يشاءُ بلا حسيبٍ ولا رقيب، بل القرآنُ هو الذي قرّرَ المادةَ العليا من الدستورِ الإلهي: (إن الله يأمرُ بالعَدْلِ)، (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، فمعنى (فدوروا مع القرآن) إذنْ هو الوقوف مع جانبِ العدْلِ الذي أمرَ به القرْآن والأخذُ على يدِ السلطانِ بما تقتضيهُ مصلحةُ الأمةِ إن خرجَ عن مقتضى العدْلِ، ولو كانَ الأمرُ على ما فهموهُ لكانَ تقريراً للفصل بين الدينِ والدولة.
- في تاريخنا كذلك وقعَ فصامٌ غريبٌ بينَ العباداتِ والمعامَلاتِ، وَوَلّدَ هذا الفِصامُ فِصاماً آخَرَ بَينَ العبادَةٍ والأخلاقِ، فانْحَسَرَتْ العبادَةُ أولاً في الشعائرِ التعبُّدِيّةِ الفردِيّةِ، ثُمّ أصبحَ هذا المفهومُ الضيِّقُ للعبادِةِ مرادفا للتّدَيُّن، لاحظْ هنا أن حَصْرَ العبادَةِ في هذا المفهومِ يستغرقُ جزءا يسيراً من حياةِ الإنسانِ، بينما تستغرقُ المعاملاتُ من بيعٍ وشراءٍ ونكاحٍ وطلاقٍ وتَعَلُّمٍ وتعليمٍ وغيرِ ذلك النصيبَ الأكبرَ من حياةِ الفرْدِ والأمّة، وزِدْ على ذلك أنّ المعاملاتِ متعدّيَةُ النفع والضرر، بينما التعبُّدُ بهذا المفهومِ المخْتَرعِ قاصرٌ نفعُهُ وضَرَرُه على صاحبه، ولمّا خَلَتْ المعاملاتُ عن مفهومِ التعَبُّدِ خلتْ عن مفهومِ الأخلاقِ كذلك، لأنّ المجتمعَ الذي وقرتْ في نفَسِهِ هذه المفاهيمُ يسيرٌ عليهِ أن يَعِيَ أنّ تطهيرَ الأعضاء بالوضوءِ عبادَةٌ مشروطةٌ لصحّةِ الصلاةِ، لكنه يَعْسُرُ عليه في الوقتِ نَفْسِهِ أنْ يعيَ أن طهارةَ القلْبِ من الغش والغلّ والحَسَدِ والخديعَةِ والمكرِ والغيبَةِ والنميمَةِ والظلمِ شرْطٌ لصحّةِ التعليم والإجارة والبيع والنكاحِ والصداقَةِ و حقّ الجار وغيرها من المعاملاتِ التي لا يقومُ المجتمعُ إلا بها.
ثمةً أمرٌ وقع منذِ زمنٍ طويل، ساعدَ على الفصام في هذا الجانب، كان ذلكَ مع بدايَةِ عصر التوَسُّعِ في التصْنيفِ وتدوينِ العلوم في المجْتَمعِ الإسلامي، وهو نهايةُ القرن الثاني وبداية القَرْنِ الثالث، حيثُ قَسّمَ العلماءُ المدوناتِ الفقهيّةَ والحديثيّةَ إلى أبوابٍ للعباداتِ، وأُخْرى للمعاملاتِ، وزادَ بَعضُهم ففصلَ الأخلاقَ في بابٍ مُستَقل، والإيمانَ في بابٍ آخر، ولم يَكنْ المرادُ بهذا التقسيمِ سوى التسْهيلِ على الطلاب، وتَيْسيرِ حصْرِ القواعِدِ والضوابطِ الكُلّيّةِ التي ترجع إليها العباداتُ من جِهَةٍ، والمعاملاتُ من جِهَةٍ، إلا أنها أَحْدَثَتْ آثاراً جانِبِيّةً تَمثّلتْ في فصامٍ في الأذهانِ لم يلبثْ ملِيّا أن استحالَ فصاماً في الممارسَةِ والتطبيقِ، وأصبحَ هذا بدَوْرِهِ عاملاً من عواملِ الضعفِ التي أدّتْ إلى انْتِقالِ مَبْدأ الفصْلِ بين الدينِ والدّوْلَة الناشئِ في العالم الأوروبيّ في أعقابِ القرون الوسطى.
- وجدَتْ مبادئُ الفصامِ إذنْ مَحلاًّ قابلاً ونفوساً مُهَيّأةً في مجتماعتنا بعد أن تضافَرَتْ على ذلك عواملُ عدة، أشرْنا إلى بعضها في الفقراتِ السابقَةِ، وبدأتْ فلسَفَةُ الفصْلِ تسري في جوانِبِ الحياةِ المختلفَةِ: الفصلِ بين السياسةِ والدولة، الفصلِ بينَ المادّةِ والرُّوح، الفصل بين السياسةِ والأخلاقِ، الفصل بين التشريع والأخلاقِ، الفصل بين العلم والأخلاق، الفصل الذي نادتْ به الرأسماليّةُ بين الاقتصادِ والأخلاق، وزاحَمَتْ هذه الفلسفَةُ الوافِدَةُ المَبْدأَ الإسلاميّ الذي يؤمِنُ بوحدة الحياة، ونشأَ عن هذا كلِّه فصامٌ جديد!، فصامٌ بين حاضرِ الأمةِ وماضيها، ماضٍ يؤمِنُ بأنّ الحياةَ كلٌّ واحدٌ لا يتبَعض، وحاضِرٍ يعيشُها مُفَرّقَةَ الأبعاضِ، مقطوعاً ما بينَ أجزائها من الصّلاتِ!.
الأسباب، الزهد، العبادة، عمارة الكون، العدل، الإنسانية، السلطان،، الدستور، الدولة، الدين، الفصل
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
بارك الله فيك أستاذنا العزيز .. جزيت خيرا دائما وأبدا .. وفقك الله