مدونة عبدالحكيم الأنيس


رؤوس أقلام (منوعات في العلم والأدب) (243)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


19/12/2024 القراءات: 6  


-تعدد النُّسخ في المكتبات:
تعددُ النسخ في المكتبة الواحدة -وقد يكون هذا التعدد بالعشرات- كان له وظيفةٌ هي التأكد والتثبت وضمان صحة النقل وصحة الخبر، ومنع التحريف والإقحام، وتلبية حاجة المطالعين إذا تعدد الطلب على كتاب واحد، وقد يكون لملمحٍ فنيٍّ وهو جمال خط النسخة وتزويقها، أو لملمحٍ علميٍّ كأن تكون بخط عالم معين أو قرئت على عالم معين، وقد تُشترى مكتبة عالم كلها ويكون فيها ما كان في المكتبة الوقفية مِن قبل، وهكذا، والأغراض تتداخل وتتكامل فيما بينها. وعلى أية حالٍ فتعدد النسخ ظاهرةٌ إيجابيةٌ جميلةٌ جدًّا.
***
-جانب أخلاقي في التراث:
من الجوانب الأخلاقية الرائعة في تراثنا: قيامُ اللاحقين بإتمام مؤلفات السابقين، وقد تَرك كثير من العلماء مؤلفاتهم قبل إتمامها لأكثر من سبب، منها ضيق أوقاتهم وهجوم المنية عليهم، ولكي لا تضيع هذه المشروعاتُ يقوم آخرون بإتمامها، وبذلك تُحفظ من الإهمال والتشتت، وتُعرف وتُصبح متداولة رائجة، وأرى من المشروعات العلمية الجميلة أن يقوم باحثٌ بتتبع مَن قام بإتمام كتاب غيره.
وهذا غير مَن بيّض مسودة، ومَن جمع فتاوى شيخه مثلًا، ومَن جمع شعر شاعر، ومَن جرد حواشي غيره أو أبيه أو قريبه. وكلُّ هذا يمكن أن يُكتب فيه ويُبين ويُذكر ويُشكر.
***
-الكثرة والوحدة:
جاء في ترجمة حاجي خليفة: "كان دأبه في العلم إرجاع الكثرة إلى الوحدة المطلقة، وإحاطة الكليات، وضبط الأصول". -كما في مقال الشيخ راغب الطباخ عنه-، ومعنى هذا أنه يعمل جاهدًا دائمًا على حصر الفروع وإرجاعها إلى قاعدة واحدة، والاستقصاء في معرفة الكليات العلمية، ومعرفة الضوابط. وهذا ذوق علمي عال، يدل على مكنة علمية وقدرة عقلية، ويؤكد هذا على طالب العلم الاهتمامَ بالقواعد والضوابط.
***
-أعلام فقدوا أبناءهم:
هذا عنوانُ مقالٍ كنت نشرته في شبكة الألوكة، وقد قلتُ في التعريف به: الجامع بين المذكورين في هذا المقال فقدُ ابن أو أكثر، وفيهم صحابة، وتابعيون، وخلفاء، وسلاطين وملوك، وأمراء، ووزراء، وعلماء، وأدباء، وصلحاء، ووجهاء، مِن مذاهب ومشارب متعددة، ولا يلزم مِن سرد الأسماء سوى البيان، وقد قالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلتُ نفسي
والتفصيلُ في الكتاب المفرد لهم، يسَّر الله نشره قريبًا.
***
-علماء فقدوا مؤلفاتهم:
وهذا كتابٌ آخر كنتُ جمعتُه من سنوات ولم أنشط لنشره بعدُ، والكتابُ ولدٌّ قلبيٌّ كالولد الصُّلبي، وكما كان هناك مَن فقدَ ولدًا صلبيًّا -كما رأينا- فهناك مَن فقدَ ولدًا قلبيًّا، والذين جرى لهم هذا من القدماء والمُحدَثين كثيرون، وشرطي أنْ يفقد العالمُ كتابه في حياته حصرًا بغير إرادته، فلا أذكر مَن تعمد إتلافه، ثم أذكرُ: هل وجده في حياته بعدُ أو لم يجده؟ وهل أعاد تأليفه أو لم يُعد؟ وهل وُجد بعد وفاته أو لم يُوجد؟ هذه الأسئلة والإجابات عليها يجدها القارئُ هناك، يسَّر الله نشره.
***
-علماء أتلفوا مؤلفاتهم:
قمتُ كذلك بجمع العلماء الذين قاموا بتأليف كتبٍ في سائر مناحي العلم ثم أتلفوها؟ فمَن هم ولمَ فعلوا هذا؟ هذا ما يجد القارئُ الجواب عنه في ذلك الكتاب.
ومعه: شعراء أتلفوا شعرهم، وهم عدد لا بأس به أيضًا، ولإتلافهم شعرَهم أسبابٌ مبينةٌ في ذلك الموضع أيضًا.
***
-طرائف العلماء:
-قال الدكتور عارف الشيخ عن شيخه الشيخ محمد نور بن سيف المهيري (ت: 1982م): "جاءه رجلٌ من أهل جاوه يودِّعه، وكان الشيخ -رحمه الله- لم يزل جالسًا مكانه في الحَرَم مِن جهة باب العُمرة بعد الدرس، فقال له بلغتهِ المكسّرةِ: يا سيدي إنني ذاهبٌ من المكة إلى المدينة، فهل يلزمك خدمة؟ فأجاب شيخُنا: نعم يا ولدي خذ الألف واللام من المكة وودِّيها إلى المدينة. فضحك الحاضرون".
-وحدثني الشيخ جلال الحنفي البغدادي أن رجلًا عرضَ له وهو سائرٌ في الشارع ماضٍ إلى مهمةٍ له فقال له: يا شيخ عندي سؤالٌ، هل صحيح أن أصل الناس قرود؟ ولم يكن المجال مناسبًا للجواب الجدِّي فقال له الشيخ على عجل: لا، ليس بصحيحٍ، فإن بعض الناس أصلهم حمير. وتركه ومضى.
-وأنشد ابن الجوزي في بعض مجالس وعظه:
أصبحتُ ألطفَ مِن مرِّ النسيم سرى … على رياضٍ يكاد الوهمُ يؤلمُني
في كل معنى لطيفٍ أجتلي قدَحًا … وكلُّ ناطقةٍ في الكون تطربُني
فقام إليه شخصٌ وقصدَ العبث به فقال: يا مولانا قولُك: "وكلُّ ناطقةٍ في الكون تطربني" فإن كان الناطقُ حمارًا؟
فقال له الشيخ: أقول له: ‌اسكتْ ‌يا ‌حمار.
-وقال الثعالبي في«دمية القصر وعصرة أهل العصر» (1/ 312- 313): "أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجانيّ قال: أنشدني الشيخ حذيفة بن الحسين العقيقيّ قال: أنشدني القاضي عبدالوهاب المالكيّ لنفسه:
كلُّ الأنامِ كلابٌ … هرّوا بكلِّ طريقِ
فإنْ ظفرتَ بحُرٍّ … فاحفظْهُ فهْوَ سلوقي!
قلتُ: ولعله قال هذا في ساعة مطايبة أو مغاضبة! وإلا فهو غير مقبول.
-وفي «مطالع البدور ومنازل السرور»: «استعار الصدرُ تاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير الكاتب "مجموعًا" من مجاهد الدين ابن شُقير، وأطال مطله، فاتفقَ أنْ حضرَ يومًا إلى ديوان المكاتبات فقال ابنُ الأثير: كيف أنتَ يا مجاهدَ الدين واللهِ قلبي [عندك] وخاطري عليك، فقال ابنُ شقير: وأنا واللهِ ‌"مجموعي" ‌عندك. فطرب لهما الحاضرون».
واللفظُ في «نفحة الريحانة» للمحبي: «يُروى أنَّ بعض الأدباء استعار من آخر "مجموعًا"، ومطله به، ثم اجتمعا في مجلسٍ بعد تراخ، فقال المستعيرُ: إنّي متشوّقٌ إليك، وقلبي ‌عندك. فقال الآخرُ: وأنا متشوّقٌ إليك، ومجموعي ‌عندك».
-وحكى لنا شيخُنا الشيخ عبدالكريم الدَّبَان أنَّ رجلًا كان كلما أخذ كتابًا ليقرأ أدركه النعاسُ ونامَ، واتفق أنْ جاءه جيرانُه وشكوا إليه رضيعًا يظلُّ يبكي ولا ينام، ورجوه أنْ يرقيه، فتناول كتابًا وأعطاه لهم وقال لهم: ضعوه على وجهه وهو ينام!
***


منوعات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع