مدونة محمد كريم الساعدي


الكتابة في درجة الصفر / الجزء الثاني

أ.د محمد كريم الساعدي | Mohamad kareem Alsaadi


12/3/2022 القراءات: 2649  


إنَّ مراحل ما يسميه (بارت) تجاوز الترسيخ التدريجي للكتابة في تاريخ فترة معينة ، الذي يقع في مراحله الأربعة، لكون أن المرحلة الأولى للتجاوز الذي حفلت به الكتابة وخاصة منذ فترة (شاتوبريان) مروراً بـ(فلوبير) و (مالارميه) وأنتهاءً بفترة نهايات القرن العشرين ، فأن التجاوز حصل من الإنتقال بين (النظرة) وهي العملية التي كانت بها مسألة الإنفصال الأدائية ، ومن ثم الاكتفاء بالنظرة الى نفسها وهي تثبت هذا المجال الانفصالي في الوظيفة الأداتية ، أما المرحلة الثانية (الصنعة) في مقاربة لما يقوم به الخزاف وصانع الحلي ، وهي مشابهة لما أشتغل به الكاتب في موضوع الكتابة لكونها تخضع إلى الصنعة ، مروراً بالمرحلة الثالثة وأطلق عليها مرحلة(القتل) وتحطيم اللغة ، أي تحويل مساراتها كلياً وتحويل الأدب الى جثة ليس فيه روح اللغة السابقة ، وصولاً الى المرحلة الرابعة وهي مرحلة (الغياب) وما تكون عليه الكتابات بين النفي وبين العجز عن الإنجاز ، وهذه المرحلة الأخير التي تكون فيها المحايدة أساساً لها تصبح الكتابة هي أشبه بالحلم الأورفيوسي ، أي الكتابة البيضاء ، أو كاتب بدون أدب .(ينظر : بارت : ص 30 ، ص31).
إذن ، فإن اللغة وهي البناء المهم التي تقوم عليه الكتابة ، تأتي في دائرة التجرد من خلال فهم (بارت) لها في كون تجردها في كليتها وعدم تحديدها من قبل جهة ما ،أو شيء ما ، فهي تشبه في تجردها الأعداد التي تأتي في كل الاشياء والمعدودات المختلفة لكنها غير داخلة فيها الا من ناحية كونها مضافة لها ، فاللغة كذلك فهي تتضمن كل التعليمات والعادات المشتركة بين الكتَاب في فترة معينة ، وبذلك تكون مجردة من الحقائق كونها لا تعطي للكاتب أو تغذيه بما هو إيجابي تجاه ما يريد أن يقدمه ، وما تقدمه له هو حقيقة التواجد في النتاج الإبداعي ، وبين عدم التقديم وإيجابية التواجد ، فهي مجردة من دائرة الحقائق من دون التواجد الذي يبقى هو في ذاته محايد كما هي قضية الغياب في المرحلة الرابعة من التجاوز .
إنَّ الجانب السلبي الذي يكون في مجال الحياد في كون اللغة ليست ابتداع الكاتب ، بل هي ملكية مشاعة بين الناس جميعاً وليس للكاتب وحده ، وهي شيء مرتبط بالمجال الإجتماعي ، وليس بالاختيار ، ومن ثم في تشكل مجالاً للتاريخ ، فهي الأفق الانساني القائم على تقييم الفة ما في مجال الاشتراك ، وليس الخصيصة الإبداعية .( ينظر : بارت : ص32،ص33) .
إنَّ ثلاثية الكاتب تتكون من اللغة والأسلوب والكتابة وتتشكل عن طريقها العملية الإبداعية لديه ، على الرغم من أن هذه الثلاثية تكمل بعضها بعضاً لكون اللغة هي المادة ، والأسلوب هو الطريقة ، والكتابة هي الشكل الذي يغلف اللغة والأسلوب ، إلا أن عناصر هذه الثلاثية تقع في مجال الأختلاف بوصف عناصرها في ذاتها وذاتياتها مختلفة على وفق الرؤية البارتية في موضوعة النتاج الأدبي . إذ يرى أن الاختلاف بين اللغة والأسلوب بأن اللغة " من دون الأدب ، والأسلوب يكاد يكون أبعد منه: فهو صور ، ودفق ، وقاموس تولد كلها من جسم الكاتب وماضيه ، شيئاً فشيئاً ،الأليات نفسها لفنه ، وهكذا تتكون تحت أسم الأسلوب (...) إنه شكل من دون مقصد ، ونتاج اندفاع لإنتاج نية ،إنه أشبه ما يكون ببعد عمودي ومتوحد للفكر " (بارت : ص33) . لذا فإن تحديدات الأسلوب يكون فيها البعد في مجال الأختلاف عن كون الأسلوب ليس مساوق للأدب، ولا موازي له فهو يقع في دائرة البعد المستقلة عن الأدب ذاته ، فالأدب شيء ، والأسلوب الذي يدخل كعنصر أساس في الكتابة شيء آخر، على الرغم من أن هذا العنصر هو مكون لصورة الأدب الذاتية للمبدع في نتاجاته الأدبية . فالعمودية التي يشكل أساسها الأسلوب تكون فيه واقفة على أفقية اللغة - وهي العنصر الثاني من الثلاثية - المتكونة من التعليمات والعادات المشتركة بين كل الكتّاب في فترة ما ، فهي لا تخضع في تشكيلها للكاتب وحده ، ولا لمجموعة من الكتّاب ، واللغة لا تكون خاضعة لأحد منهم في مجال الإيجاد لها ، أي ليس للكاتب مهما كانت مكانته في عصره أن يكون الموجد لها ، بل هي تقع مستقلة خارج إبداعه الذي من الممكن أن يكون هو صورة من صورها ، وليس هو الأصل فيها ومكونها ،لذا تأتي أفقيتها من كونها شاملة لكل أنواع التخاطب المعرفي ، سواء أكان هذا التخاطب يأتي بقصد ،أم من دون قصد ، يأتي في كونه معبراً عن صورة أدبية ما ،أم أنه يأتي في سياق التداول اليومي له في الأشياء . لكن كليهما - أي اللغة والاسلوب - " يرسمان للكاتب طبيعة ما ، لأنه لا يختار أياً منهما . اللغة تعمل وكأنها سلبية ، كأنها الحد البدئي للممكن ، أما الأسلوب فهو ضرورة تربط مزاج الكاتب بلغته " (بارت : ص35) . وهذه السلبية ،بل نقول الحيادية التي تقف عليها اللغة في أشتغالات الكاتب هي في كونها ليست ملكه ، ولا هي خارج منظومته الإبداعية ، أي تأتي بينهما ، لهذا السبب تكون سلبيتها في اشتغال الكاتب عليها كونها خارج عن سيطرته بصورة كلية مكتفياً بالقليل منها ، ويمكن أن نصورها في مثال المشتغلين في النحت ، لو أخذنا مثال واحد من المواد المستخدمة في هذا الاختصاص ، مادة التراب ، فالأرض واسعة فيها أنواع من هذه المادة ، والنحات لا يمكن أن يجعل كل تراب الأرض خاضع له ، بل هو يستخدم ما هو يسير جداً في تشكيل إبداعه في عمله النحتي ، كذلك اللغة في مدياتها الكلية لا يمكن أن يأتي شخص ويسيطر عليها ويخضعها ، بل لا يمكن أن يقدم لهذه المادة الزئبقية غير المسيطر عليها في ظهوراتها المختلفة في عموميتها وخصوصياتها ، لا يمكن إلا أن تكون سلبية ومحايدة في مجال العمل الإبداعي ، سواء أكان هذا الظهور الإبداعي في كل الفترات ، أم في فترة ما .


الكتابة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع