مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


كيف تبنى الأوطان؟ -خامساً: بناءُ الإنسان -

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


2/17/2025 القراءات: 9  


كيف تبنى الأوطان؟ - بناءُ الإنسان -
ها نحن نتابع سلسلة بناء الأوطان، ومن أهم أسس بناء الأوطان بناء الإنسان قبل العمران، فعدما ﺃﺭﺍﺩ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﻮﻥ ﺍﻟﻘﺪﺍﻣﻰ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﺸﻮﺍ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻥ، ﺑﻨﻮﺍ ﺳﻮﺭ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻭﺍﻋﺘﻘﺪﻭﺍ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ‌ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﺴﻠﻘﻪ ﻟﺸﺪﺓ ﻋﻠﻮﻩ، ﻭﻟﻜﻦ ﺧﻼ‌ﻝ مئة ﺳﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺗﻌﺮﺿﺖ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﻟﻠﻐﺰﻭ ﺛﻼ‌ﺙ ﻣﺮﺍﺕ !
ﻭﻓﻰ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺟﺤﺎﻓﻞ جيوش ﺍﻟﻌﺪﻭ ﻓﻰ ﺣﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﺧﺘﺮﺍﻕ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺃﻭ ﺗﺴﻠﻘﻪ، ﺑﻞ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﻳﺪﻓﻌﻮﻥ ﻟﻠﺤﺎﺭﺱ ﺍﻟﺮﺷﻮﺓ ﺛﻢ ﻳﺪﺧﻠﻮﻥ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺒﺎﺏ.
ﻟﻘﺪ ﺍﻧﺸﻐﻞ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﻮﻥ ﺑﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﻭﻧﺴﻮﺍ ﺑﻨﺎﺀ الإنسان الذي يحرس السور.
فأين نحن من بناء الإنسان؟
يحدثنا التاريخ أيضاً عن أشكال من البناء المظهري للإنسان سواء على صعيد الرعاية الصحية أو الفكرية أو التعليمية المادية أو حتى التربية الشكلية التي أفرزت لنا المهندس والطبيب والمعلم وغيرهم ممن يتقنون مهنتهم ولا يعرفون شيئاً عن أخلاقياتها.
فأين نحن من بناء الإنسان؟
قال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5].
إنّه الإنسان، هبة الله في الوجود، وتجليات عظمته في الخلق، وبدائع صنعه في الكون؛ ولهذا الإنسان أسجد الله تعالى ملائكته، ولهذا الإنسان جعل ما في الكون مسخراً له، فأكرم بالإنسان مكانة، ثم أكرم به منزلة وأمانة !
وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قال:
أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ
فَأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الَّذي بِأَحرُفِهِ يَظهَرُ المُضَمَرُ
إن الكعبة المطهرة هي أشهرُ مقدساتنا وأكبرُ معاقل التوحيدِ على الأرض، وقد حفَّها الله تعالى بالأمان وجعلها حرماً آمناً وكتب الصلاة فيها بمائة ألف صلاة، ولكنها ليست مقصودة بذاتها إلا لتُحَقِّقَ مرابحَ الإيمان وتعلو عليها قيمة الإنسان، روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَطوفُ بالكعبةِ وهوَ يقولُ ما أطيبَكِ وأطيبَ ريحَكِ ما أعظمَكِ وأعظمَ حرمَتكِ والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لحُرمةُ المؤمنِ أعظمُ حُرمةً عِندَ اللهِ مِنكِ مالُهُ ودمُهُ وأنْ يُظنَّ بهِ إلا خيرًا) [رواه ابن ماجه].
فالإنسان هو الأقدس والأعظم حرمةً؛ لأنه مخلوقٌ من روح الله تعالى مالك الكون، قال الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].
ولأن الإنسان هو محور كل تقدم حقيقي وسبب حفظه واستمراره، فبناء البشر قبل بناء الحجر، إذ لا قيمة لأي بنيان إذا هدم الإنسان، ولا قيمة لعمارة المباني والمنشآت إذا ساكنها وعامرها خراب، فلابد من بناء الإنسان بناءً شاملاً متكاملاً: عقدياً، وعلمياً، وخلقياً، وبدنياً، وثقافياً واجتماعياً ليتمكن من منفعة نفسه ووطنه.
وهذا ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم من البناء لأصحابه، فكان يربيهم على العقائدِ الصحيحة، والمبادئ القويمة، والأخلاق الحميدة، والأقوال السديدة، والأفعال الرشيدة، فكانوا أكملَ خلقِ الله تعالى.
إن الحضارة المادية قد نجحت بامتيازٍ في الجانب العمراني والتقني، لكنها رسبت رسوباً مدوياً في بناء الإنسان ورعاية إنسانيته وتنمية مشاعره وإمداده بمنظومةٍ رائعةٍ من مكارم الأخلاق وروائع الشيم، فمات فيهم الإنسان واستيقظت فيهم الشهوات والمآرب والرغائب، وصار الفرد هناك مهتماً حتى النخاع بشهواته وماله وملبسه وشكله على حساب روحه وأخلاقه، وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله من باب الانتكاس والتعاسة، ودعا على من كان هذا حاله بقوله: (تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ) [رواه البخاري].
لقد مات الإنسان الذي صنعته حضارة الغرب بمشاعره الإنسانية، إنه يشاهد كل يومٍ عبر الشاشات مشاهد القتل والترويع من بني جلدته وبني دينه للعزَّلِ والضعفاء والأبرياء من العجزة والأطفال والنساء من أهل الإسلام دون أن تُحَرِّكَ في همته الكليلة نحو العدل فتيلاً، إنه يشاهد هذه المفجعات وهو يتسلى ويضحك أو يتناول الطعام والشراب ويسمع الأخبار وهو يقود سيارته أو مستمتعاً بيخته، لقد ماتت فيه الإنسانية، لم يعد تهتز شعرة من جسده من مناظر القتل المريع، ولم يعد يرثي للمظلومين والمكلومين، وليس في خطة أيامه أبداً أن يقف في وجوه القتلة والظالمين، لقد مات عقله وماتت إنسانيته!
فأين نحن من بناء الإنسان؟
إن إنسان هذا الزمان مبتلى بحب الدنيا حتى النخاع، ومريضٌ بداء الاستحواذ على أدوار الآخرين في مجال العجب والتفاخر، والأدهى والأمر أن المتاحُ من مشاهدِ التَّديِّنِ الحاضرِ ليغري بأن الدور الإنساني يسيطر على كل المواقف، فترى من أمارات التدين الظاهرة كزيادة عدد المصلين في المساجد، وظاهرة الصدقة الجارية، والعمل التطوعي، وكثرة الحجيج والمعتمرين، واستظهار القرآن الكريم على الألسنةِ، والحجابِ وإطلاق اللحى وزيادة معاهد العلم الشرعي بأشكالها وألوانها، وهذا كله طيبٌ ومباركٌ، ولكنه مجرد علامات ظاهرة على حسن التدين، فأين تحصيل الأثر الإنساني من هذه الأعمال الطيبة في نفوس المؤمنين؟
كم قابلنا من أمثال هؤلاء الذين يصومون رمضان ولا يصلون، ورأينا الحجاب الفرنسي، والطبيب الجرَّاح الذي سرق كلية مريضه، وسماسرة الأعضاء البشرية، والتاجر الذي يصور خلسة زبائنه من السيدات أثناء قياس الملابس، والمحامي الذي يبيع موكله لخصمه؛ لأنه دفع له أكثر، والذي يقدم لحم القطط والحمير لزبائن مطعمه، والنماذج تفوق الحصر والوصف.
خَلَتِ المَشَاعِرُ مِنْ حَرَارَةِ شَوْقِهَا
ضَعْفًا كَمَا خَلَتِ القُلُوبُ مِنَ الدَّمِ
الصَّوْمُ وَالصَّلَوَاتُ مِلْءَ دِيَارِنَا
وَالحَجُّ لِلبَيْتِ العَتِيقِ وَزَمْزَمِ


بناء الأوطان، بناءُ الإنسان، جرم صغير، حرمة المسلم،


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع