مدونة خالد بن فتحي بن خالد الآغا
البطالة في ثوب التدين/بحث عن جذور المشكلة
خالد فتحي خالد الآغا | Khaled Fathi khaled Alagha
9/2/2021 القراءات: 2646 الملف المرفق
البحث في منشئ العلل والأدواء التي أصابت الأمة واجب يتوسل به إلى واجب أعظم وهو محو ما خلفته من الآثار على الاعتقاد والفكر والسلوك من جهة، وعلى الفرد والمجتمع والدولة من جهة أخرى، لأن هذه الآثار تشكل عائقا في طريق المسيرة الراشدة التي تبلغ بها الأمةُ أهدافها، فالواجب الأول بالنسبة إلى الثاني كالوسيلة بالنسبة إلى الغاية، وكما لا يمكن التوصل إلى الغايات إلا بالوسائل، فلا يصح كذلك الاكتفاء بالوسائل وإهمال الغايات.
الإرجاء، ومذاهب الغلو في الزهد، والقول بوحدة الوجود، التقت كلها على غاية واحدة هي تعطيل العمل، فالغلو في الزهد نشأ عند البراهمة في الهند قديما، ويسمون عندهم بالحكماء والصوفية، يتعبدون بأذية النفس، والزهد في الدنيا لتتحد النفس بعد تطهيرها بالإله (براهما) وتصير جزءا منه، وكذلك طائفة الجانتيين التي نشأت في الهند في القرن السادس قبل الميلاد، أسسها زعيمهم الذي يسمونه (ماهافيرا)، وتعني: البطل العظيم، بعد موت والديه الذين عذبا نفسيهما بالجوع حتى الموت، ومن مذهبهم الرهبنة في الزواج، وهم أصحاب القول بنسبية الحق، التي اخترعوا لأجلها قصة الفيل والعميان الستة، والحقيقة المطلقة عندهم لا تنكشف إلا لأفراد من البشر يظهرون في أوقات معينة بانتظام ليخلصوا العالم، واعتبروا اللذة الحسية خطيئة في كل حال، وحرموا على أتباع المذهب الزراعة، وأكل الطيبات، وتصفية الماء قبل شربه، كما جوزوا الانتحار انتصارا للروح بزعمهم، خاصة إن كان من طريق تجويع النفس، وعلى كل حال فمذهبهم قام على أساس من الشك في قيمة الحياة وإنكارها إنكارا شديدا، وكان الرئيس الهندي (غاندي) شديد التأثر بهذا المذهب. وللعلم – والشيء بالشيء يذكر- فإن رياضة (اليوقا) المعروفة؛ نشأت في أصلها مذهبا دينيا عن هذه المذاهب.
ويلاحُظ مما ذكر سابقا أن هذه الأقوال تسربت إلى العقائد والأفكار في العالم الإسلامي، وقد ذكر جماعة من مؤرخي وعلماء الديار الهندية أن تسرب هذه المذاهب والنحل إلى العالم الإسلامي بدأ مع بدايات الفتح الإسلامي، حيث اعتنق ألوف من الناس دين الفاتحين المسلمين، وهؤلاء لم يسعفهم الوقت في إصلاح ما تبقى من الرواسب العقدية والفكرية عند المسلمين الجدد، ثم لم تلبث هذه الرواسب أن شاعت بين المسلمين -لأسباب عديدة- بعد أن شابها أصحابها بعقائد الإسلام وفلسفاته.
ومما له علاقة بالأمة والسياسة في هذه الموضع ما أشار إليه (ول ديورانت) في حديثه عن تاريخ الهند، أنها لما تعرضت للغزو قديما وأفقرها الغزاة، وأوذي المجتمع جسدا وروحا، لم تجد الأمة ملاذا من الهزائم إلا في انتصارات مصطنعة ظفروا بها في الأساطير والخيال، وظهر فيهم (الرواقيون) القائلون بالجبر، والاحتجاج بالتسليم للقضاء والقدر، والرضا بصروف الدهر، و(دعوا إلى الزهد في كل شهوة ومطلب من مطالب الحياة، حتى في الكفاح لأجل الحرية، سواء كانت حرية الفرد، أو حرية الأمة، وأصبح مثلها الأعلى جمودا لا يعرف الرغبات، مع تصوير الحياة على أنها شر لا مفر منه، وتثبيط الهمة عند أتباعها، وإشاعة الكآبة في نفوسهم، حتى استحالت الظواهر الدنيوية على يديها أوهاما، فمحت بذلك الفوارق بين الحرية والعبودية، وبين الكرامة والمهانة، وبين الخير والشر، وبين الإفساد والإصلاح).
والمهم في كلام (ول ديورانت) هو المبدأ، الذي يشير إلى سنة اجتماعية في الحياة البشرية، وإلا فإنه يجعل المسلمين من جملة الغزاة الذين غزوا الهند فأفقروها وأذلوها، لأنه أغفل -جاهلا أو عامدا- الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان.
وما ذكره يكاد يحكي صورة ما حصل في عالمنا الإسلامي، خاصة في قرونه الأخيرة.
وكذلك الحال مع مذهب وحدة الوجود، الذي كان في الديانات الهندية القديمة، وقال به (الرواقيون) أيضا، وعنهم أخذه (بارمنيدس) الفيلسوف اليوناني، وانتقلت منه هذه العقيدة إلى اليهود والرومان، وهو مذهب يلتقي في المحصلة مع القول بالجبر، والاعتذار للقعود عن السعي والتقصير في الأخذ بالأسباب بالقضاء والقدر، لأن القول بوحدة الوجود في المحصلة محو للفارق بين الرب الآمر، والعبد المأمور.
والإرجاء أيضا يلتقي مع هذين المذهبين الرديين، في تأخير العمل، ولا شيء أوفق لأهواء الحكام منه، فهو دين يوافق الملوك، كما قال النضر بن شميل للمأمون لما سأله عنه، لأنه من وجه يبرر له ما يصنع، وإن بلغ في الاستبداد والإفساد ما بلغ، ويكاد يتفق في هذا مع مبدأ حق الملوك الإلهي، أو التفويض الإلهي، الذي كان رائجا في أوروبا في القرون الوسطى، ومن وجه آخر فإنه مذهب يروض الناس على ترك العمل، ومن ترك العمل لمصلحة نفسه، فماله ولمصالح الناس والأمة.
وهكذا الشأن فيما قال به الأشاعرة والغزالي في الأسباب التي يسميها الأشاعرة (العادة)، فإن مؤدى ذلك كله إلى النتيجة نفسها، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل وفي مدارج السالكين في معرض رده على هذه الأقوال: إن ما يفيد إثبات الأسباب في الكتاب والسنة يزيد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة، بل ذكر أن شهادة الحس والعقل والفطرة كافية في هذا المقام، وأن الالتفات إلى الأسباب بالكلية شرك مناف للتوحيد، والإعراض عنها مع العلم بكونها أسبابا نقصان في العقل.
وعلى كل حال فمعالجة آثار هذه المذاهب وانتشارها في الأمة يحتاج إلى خطاب يناسب اختلاف حال المخاطبين وثقافتهم، فإنها آثار طالت الخاصة والعامة، كما طالت العقائد والأفكار والسلوك، ولا يكفي في ذلك الكتب والردود التي لا يقدر عليها إلا أهل العلم، بل يعسر فهم كثير من مباحثها على كثير من الطلاب، وبالله التوفيق.
البطالة، الزهد، الإرجاء، وحدة الوجود، الأشاعرة، الأسباب
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع