هل يموت المصمم كما مات المؤلف؟
ناهض طه القيماقجي | Nahedh Taha Al-Qemaqchi
6/23/2021 القراءات: 3165
منذ ان نشر رولاند بارت (Roland Barthes, 1915 – 1980) السيميائي الفرنسي مقالته الشهيرة حول موت المؤلف عام (1968)، انبرى البنيويون الى اقصاء المؤلف عن النص، واختاروا فتح باب التأويل للقارئ، ودعوا الى قراءة ثانية للنصوص يكون القاري فيها هو سيد النص بإسقاطاته الثقافية والاجتماعية، ولم تكتف التفكيكية (التي هي احدى نظريات ما بعد البنيوية) بما آلت اليه سابقتها، بل امعنت تمزيقا بالنص وفككته كاملا وحللت اشاراته وقامت بتوليفه ثانية لتقدمه بصياغة جديدة واعتبر جاك دريدا( 2004- 1930 Jack Derrida) النص بانه آلة تعمل بمفردها.
لقد نزع بارت سمة القدسية التي كانت تضفى على المؤلف ولم تعد قيمة النص ترجع إلى عبقرية المبدع بل حلت السمة التي تطبع العمل محل الكاتب، ان موت الكاتب عند بارت سيؤدي بالضرورة إلى ميلاد طرف آخر في هذه المعادلة وهو القارئ أو الناقد والذي ستصبح له الحرية الكاملة ليستبيح النص ويفعل به ما يشاء، مادام مبدع النص هو خارج هذه المعادلة. فالقراءة بهذا المعنى هي القراءة الواعية والتي ترتبط باستعداد القارئ، هذا الاستعداد الذي تحكمه شروط الثقافة والوعي المسبق، ومادام النص يكتسب قيمته من هذه الشروط، فالقارئ من هذا المنطلق يقتحم النص بنخبويته وقدرته على التحليل والتأويل. لكن التساؤل يبقى مشروعا، هل يمكن فصل النص عن مبدعه وهل يمكن للقارئ المهتم ان يعيد انتاج رواية لنجيب محفوظ او ماركيز بمعزل عن كل ما هو مطلوب لفهم اعمالهما، وهل يستطيع ان يختزل جبران والسياب ضمن حدود تأويله.
لقد كنت افكر في هذا وانا اشاهد مقطعا من فلم يظهر عملا رائعا من اعمال المعماري فرانك لويد رايت وهو متحف كونكهام، بمنحدره الحلزوني وفضائه المتنامي، وأتساءل: هل يتمكن أي مهتم بسيط بالعمارة والفن المعماري ان يفصل بين اعمال المعماريين الرواد وما بين نظرتهم للعمارة ومدرستهم التي انتموا اليها والحقبة الاجتماعية والثقافية التي عاشوا فيها؟ وهل يتمكن المتلقي من ان يعيد تفسير اعمال نورمان فوستر وكينزو تانك و روبرت فنتوري، اننا لا نستطيع الا ان نستحضر فكر ليوكوربوزيه عندما ننظر الى كنيسة رونشامب او الى فيلا سافوي ولا نستطيع ان نتناسى رايت ونحن ننظر الى بيت الشلال.
الا أنى وفي ذات الوقت، كنت أتأمل في النسخ الجديدة من العمارة وغلبة عمارة (الخمس نجوم) على المنتج المعماري بشكل عام إلى درجة أنها صارت تنذر بوجود تنافس على "نصوص" معمارية صارت تتشابه إلى حد يصعب معه تحديد روح المعماري فيها، بقدر تحديد المجال التقني الذي صار يشكلها. إننا أمام مشكلة اساسية تنذر بغياب كامل للعمارة التي نعرفها خصوصا مع هذا المد الطاغي للمباني المرتفعة والاستعراضية التي صارت تشكل خط السماء في جميع المدن على مستوى العالم.
المثير حقا والذي يجعلنا نضع علامات استفهام كبيرة، هي أن الحالة التي تعيشها معظم المباني الحالية والتي غالبا ما تحوز على رضى النقاد، وتجمع الجوائز، في نسختها "التفكيكية" أو "حداثيتها الجديدة" تجعلنا نتصور كيف أن هذه "الأيقونات" العملاقة تحولت إلى تكوينات "هلامية" لا تشعرنا بالاطمئنان على المستوى البصري، ولا تشعرنا بالانتماء على المستوى المكاني، كما انها تلغي الهوية على المستوي الجمعي، فهي منتجات استهلاكية كغيرها من مستهلكات العصر، تتخطى المصمم ليس لصالح العمل او النص او المتلقي بل لصالح المنتج والمؤسسة إنها منتجات تقنية بشكل حاد تدفعنا للمشاهدة والتفكير والبحث عن الاختلاف الذي تقدمه لنا. فالعمارة الآن أصبحت تنتج من قبل "فرق" تصنيعية، والفكرة المعمارية لم تعد كافية لوحدها بل تحتاج إلى فريق تقني وإنشائي يشارك المصمم منذ اللحظات الأولى ويصنع معه "الشكل" الذي صار يولد على شاشات الحاسب الآلي.
ان من حقنا ان نتساءل، هل نحن الآن أمام اتجاه يسعى إلى موت المصمم ولمن ستصبح السلطة؟ ومع العولمة في أوج ازدهارها هل سيجد القارئ اليوم نفسه وقد سحب البساط من تحت قدميه، ليس لصالح العمل ولكن لصالح الثقافة والمؤسسة التي أنتجته.
إن التقدم الإلكتروني الذي نشهده اليوم، وهذه الشبكة العنكبوتية التي تطاردنا، وسهولة التعامل معها وما تمنحه من آفاق معرفية، قد ساهمت في ان تتحول مدننا الى نسخ متشابهة ذات طعم واحد ونكهة متشابهة ان لم نقل متطابقة، بأبنية تصلح ان تستنسخ في كل مكان، إنها حالة "موت المعماري" الموعودة، ولكن بشكل مختلف!! فالمؤلف الذي مات لصالح النص في المدرسة البنيوية النقدية هو الذي مهد، لتلك الأيقونات الجديدة بكل تقنيتها وفجاجتها وصبغتها الصناعية لان تعلن موت المعماري بكل وقاحة، فالدور الابداعي صار يتقلص على المستوى الفردي وأصبح المبنى ينتج بشكل جماعي وهو الأمر الذي يتنافى مع الروح الفردية لدى المعماريين. وأصبح فكر المصمم وثقافته ودوره القيادي في حالة ارث مبكر، إننا نشهد عصراً جديداً لابد أن يغير صيغ التعليم وأساليب ممارسة المهنة المعمارية، ولا بد أن نستعد لهذا العصر بالبحث عن مقومات محلية جديدة تساهم في هذه النقلة "الجماعية" المرتقبة وتساعد على ان تمتص اذاها.
المصادر:
- الطيب صالح، مختارات - 2 - المضيئون كالنجوم : من أعلام العرب والفرنجة – رياض نجيب الريس، الطبعة الاولي، مارس 2005 – الفصل الثامن - رولان بارت ص 297.
- سبتي ابراهيم، موت المؤلف وخلود الاثر، الحوار المتمدن، العدد: 1563، 2006 / 5 / 27 - ص 13:25
- Jenks C. The Architecture of the Jumping Universe, Academia Edition Pup. Chester 1979
العمارة، النص المعماري، رولان بارت، التناص
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع