مدونة ياسر جابر الجمال


سلطة المكان وأثرها في تكوين شخصية الإسكندرية الفكرية

ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal


10/2/2023 القراءات: 1455  



لا أحد يدري إذا كان الإسكندر الأكبر قد أسس مدينة الإسكندرية؛ لتكون عاصمة للثقافة في الشرق الأوسط بملامح إنسانية تختلف عن ثقافة اليونان أم أنه بناها لسبب آخر، ولكن واقع التاريخ يذكر أن الإسكندرية أصبحت في وقت قصير بعد موت الإسكندرية عاصمة الثقافة بحق ثقافة مغايرة تتفق مع اليونان في أصول، وتختلف في أصول أخرى "شاء قدر الإسكندرية أن تكون مدينة حضارية كبرى بمجرد ظهورها إلى الوجود، فقد أراد الإسكندر الأكبر أن تكون عاصمة إمبراطوريته حين أسسها عام 331ق.م، فلما خلفه بطليموس الأول سوتر (323-285) ق.م، أراد أن تكون الإسكندرية مركزًا للعلوم والآداب والفنون يفوق أثينا، فاستقدم ديمتريوس الفاليرى الذي وضع القوانين واقترح إنشاء مكتبة الإسكندرية وإنشاء أكاديمية كبرى للعلوم والفنون، وأكمل هذه المشروعات بطليموس الثاني فيلادلف (285-247) ق.م. كما أكمل أيضًا بناء منارة الإسكندرية بجزيرة فاروس، وأعاد حفر الخليج القديم بين النيل والبحر الأحمر مما أنعش الاقتصاد المصري، واستقدم العلماء والأدباء، وصارت الإسكندرية مركزًا لإشعاع الحضارة الهيلينستية التي تمزج بين حضارة الشرق وحضارة اليونان، وسمى العصر الذي بدأ مع بطليموس الأول بالعصر السكندري، وتوافد إلى الإسكندرية كل من راوده الأمل في تحقيق المجد من العلماء والأدباء إذ كانت الحكومة تقدم لهم الرعاية الكاملة"( ).
هذا التكوين المادي للمكان والتكوين الإنساني لنوع وطبيعة البناء الأول، قد خلق مدينة شديدة الخصوصية في الفكر الإنساني، "فهذه المدينة تأسر القلوب، وتجذب عقول زائريها لأول وهلة، إذ إنه من العسير امتلاك النفس عند مفارقتها، فهي أشبه بالمحبوبة التي لا يستطيع المحب الخلاص من عشقها ؛ ولذلك أعجب المؤسس الأول – الإسكندر الأكبر - بتلك المدينة بصورة كبيرة، حتى إنك لتجد أن اسم مدينة الإسكندرية قد ارتبط بمؤسسها العظيم والأشهر على مستوى التاريخ القديم، ولم تحظ مدينة على مستوى العالم بهذا الإعجاب والثناء بعد روما مثل مدينة الإسكندرية، كذلك لم تحظ مدينة بالذكر في كتب التراث القديم (الكتابات الأدبية القديمة) بقدر ما حظيت الإسكندرية"( ).
وربما كان للموقع الجغرافي وطبيعة أهل المدينة أثر يشبه السير في تكوين ملامح الأفكار وجوهرها، فإن المتتبع لدور مكتبة الإسكندرية قبل دخول الإسلام مصر يكتشف تلاحم عناصر من الشرق الأقصى بعناصر يونانية وعناصر محلية، اختلطت وتفاعلت فنتج مكون ثقافي سماه المؤرخون الثقافة الهلينية كانت الإسكندرية منطلقها وأساسها، إذ "تحتل الإسكندرية مركزًا فريدًا بين مدن العالم وثغوره الكبرى يؤهلها للبروز في كل ميدان من ميادين السعي إلى التقريب بين أطراف الحضارة البشرية وتجميلها في ظل الإخاء والتعاون والمحبة والسلام، فما من عاصمة في الدنيا، قديمة أو
حديثة كان لها مثل نشأة الإسكندرية تاريخيًا وجغرافيًا، ولا مثل استيعابها على مر العصور في تقبل وسماحة وسعة لكل ما جاش بعقول الناس وقلوبهم وأذواقهم من فلسفات ومذاهب ونحل وعقائد حتى ليصح القول أنه إذا كان للبشرية أن تذوق بعد طول المنازعات السياسة والتكتلات الاقتصادية والخلافات الأيدلوجية طعم الدعة والتعاون الأممي، فإنما تكون الإسكندرية هي مخيم هذا اللقاء العظيم"( ).
ويكاد يتفق المؤرخون في الشرق والغرب حول انفراد الإسكندرية بكونها عاصمة لثقافة وفلسفة وأدب لا هو باليوناني الخالص، ولا هو بالشرقي الخالص، وإنما هو مزيج منهما معًا، وقد أضيف إليه بعد ثالث هو حضور الإسكندرية وعيًا وروحًا في هذا المزيج، "ذلك لأن الإسكندرية قد نشأت في ضوء رؤيا تاريخية رائعة كانت تراود بُناتها العظام بأن تكون عاصمة دنيا لا تغلو في عصبيات الأجناس ولا تعلو على الاعتراف بمزايا الاختلاط والاقتباس. وفي صحرائها تأكدت هذه الرؤيا للإسكندر، وهو يقدم قرابينه لآمون في سيوة إذ عاد من هذا الحج بعقيدة "وحدة العالم التي توج بها فتوحه العجائبية في أعماق آسيا"( ).
إن الباحث في تاريخ الإسكندرية أو فلسفتها أو أدبها في أي عصر من العصور مطالب بالبحث عن مفهوم الرسالة والدور والأثر الذي سعت إلى تأسيسه ونشره هذه المدينة "ولما أفلت شمس هذه الفتوح واندثرت ست عشرة مدينة كانت تحمل اسم الإسكندرية على خط الفتوح بين نهر الفرات في آسيا الصغرى ونهر السند في آسيا الوسطى، بقيت إسكندريتنا هذه تحمل الرسالة الأممية العظيمة والبشارة البشرية الغالية عبر القرون والأجيال من العصر الهيلينستى البطلمى وامتداداته اليونانية الرومانية بكل معطياتها من الفنون والمعارف والفلسفات، إلى العصر العربي بكل ما وهبه لهذا الثغر خلال العصر الوسيط من مزايا الطريق السلطاني بين المشارق والمغارب. والرباط الدائم لأئمة العلم والهداية من فرغانة شرقًا إلى غانا غربًا، ثم بما جعلها في العصر الحديث مدينة تؤدي دورها الكبير في تمثيل الحضارة البيضاء المتوسطة وملتقى بديعا للقارات العريقة التي صنعت تاريخ العالم "أفريقيا وآسيا وأوروبا"( ).


الأدب


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع