مدونة د. محمد سلامة الغنيمي


التجدد الحياتي بين السنن الكونية والتكليف الرباني: رؤية تربوية متكاملة

د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim


3/3/2025 القراءات: 6  


إن النواميس الكونية تُعلّمنا أن التغير سمة أصيلة في هذا الوجود، فالسكون المطلق غاية لا تُدرك إلا بنهاية الدورات الحياتية. فالماء الراكد يتحول إلى آسنٍ يموت فيه الجمال والحياة، والخلايا التي تتوقف عن النمو تذبل وتفقد قدرتها على البقاء، والكون بأسره يسبح في فلك ديناميكي لا يعرف الجمود. وهكذا يصبح التطور والحركة ضرورة وجودية، وليسا خياراً يُتَنَازَل عنه، خاصة في عصرنا الحاضر حيث تتسارع وتيرة المعرفة، وتتوالى الاختراعات التكنولوجية بلا توقف، مما يجعل الوقوف عند حدٍّ معرفي أو مهارة واحدة إعلاناً ضمنياً بالتقادم والانكفاء.

لقد ارتقى الإسلام بهذه الحكمة الكونية إلى مرتبة التكليف الإلهي، فجعل السعي والعمل ركنًا من أركان العبادة، وربط الإيمان بالحركة الفاعلة في الأرض. قال تعالى: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾، وجعل القراءة بوابة العلم أول ما نزل من الوحي: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾، فالعلم هنا ليس ترفاً فكرياً، بل فريضة دينية وضرورة حضارية. بل إن الشرع الحنيف نهى عن الانكفاء حتى في سياق العبادة الخالصة، لئلا يصبح الزهد ذريعة للعزلة عن مسؤوليات العمران.

وفي هذا السياق التربوي، يبرز دور الإنسان ككائن مفكِّرٍ فاعل، لا كمتلقٍ سلبي. فالإنسان الناجح هو من يتحول إلى "حديثٍ حسن" يُروى للأجيال، بإنتاجه المعرفي وأثره العملي، لا بمجرد ترديد أقوال السابقين. وهذا يستدعي تنمية مهارات التفكير النقدي، والإبداع، والتكيف مع المستجدات، مع الحفاظ على الجوهر القيمي الذي يحفظ التوازن بين التقدم المادي والسمو الروحي.

ولا يكتمل هذا المسار إلا بتبني فلسفة "التعلم مدى الحياة"، حيث يصبح طلب العلم هواية دائمة وشغفاً لا ينضب، في ظل وعيٍ بأن المعرفة اليوم أشبه بنهرٍ جارٍ، من توقف عن السباحة فيه جرفته أمواج التغيير. كما أن توظيف التكنولوجيا كأداة للارتقاء الفكري والمهني، مع التمييز بين استخدامها الهادف وإدمانها الاستهلاكي، يصبح مطلباً تربوياً ملحّاً.

فليكن شعارنا في هذا العصر: التجدد في الفكر، والجدية في العمل، والإخلاص في النية. فكما أن الكون يسير نحو غايةٍ حكيمة، فالإنسان مدعوٌّ لأن يكون شريكاً فاعلاً في هذا المسار، بحيث تترك بصمته إرثاً يُذكر في سجل الحضارة، مصداقاً لقول الشاعر:

إنما المرء حديثٌ بعده *** فكن حديثاً حسناً لمن وعى

فهو دعوة لأن نكون أفراداً نُحْيِي من حولنا بفكرنا، ونُثري الوجود بعملنا، ونُجسّد بوجودنا معنى العبودية الفاعلة التي تجمع بين عبادة القلب وعمارة الأرض.


تربية، فكر، نهضة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع