الاستخبارات في العصر النبوي
د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees
8/8/2022 القراءات: 3259
هذا موضوعٌ طريفٌ، جديرٌ بالعناية والتتبع واستكمال شواهده وقصصه وأخباره، وقد رأيتُ من النظر في كتب السيرة والحديث أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مرصودة أدقَّ رصد من قبل ملوك عصره وزعمائه، من الأصدقاء والأعداء على السواء، وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
قال الإمامُ ابنُ أبي الدنيا في كتابه "الشكر" (ص: 53-54):
"حدثني حمزة بن العباس، ثنا عبدان بن عثمان، أنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن عبدالرحمن -رجل من صنعاء-، قال: أرسل النجاشيُّ ذاتَ يوم إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابهِ فدخلوا عليه وهو في بيتٍ عليه خُلقان، وهو جالسٌ على التراب.
قال جعفر: وأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلمّا رأى ما في وجوهنا قال: إني أبشِّركم بما يسرُّكم، إنه جاءني مِنْ نحو أرضكم عينٌ لي فأخبرَني أنَّ الله قد نصرَ نبيَّهُ، وأهلكَ عدوه، وأُسر فلان وفلان وفلان، وقُتل فلان وفلان، التقوا بوادٍ يُقال له "بدر" كثير الأراك، كأني أنظرُ إليه، كنتُ أرعى به لسيدي -رجل مِن بني ضمرة- إبلَه.
فقال له جعفر: ما لكَ جالسًا على التراب ليس تحتك بساطٌ وعليك هذه الأخلاق [الثياب البالية]؟
قال: إنّا نجدُ فيما أُنزل على عيسى عليه السلام: أنَّ حقًّا على عباد الله أنْ يُحدثوا لله تواضعًا عندما يُحدِثُ لهم نعمةً، فلما أحدثَ اللهُ لي نصرَ نبيِّه أحدثتُ له هذا التواضع".
والنصُّ واضح صريح بوجود (عينٍ) للنجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرَه بما حصل في معركة "بدر" حالًا.
***
وفي حديث كعب بن مالك -وهو أحد المخلَّفين الثلاثة- في كتاب المغازي في "صحيح البخاري" (6/ 5، الحديث: 4418) :
"... ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -أيها الثلاثة- مِن بين مَنْ تخلَّف عنه [في غزوة تبوك]، فاجتنبَنا الناسُ وتغيَّروا لنا، حتى تنكرتْ في نفسي الأرض، فما هي التي أعرفُ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان.
وأمّا أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنتُ أخرجُ فأشهدُ الصلاة مع المسلمين، وأطوفُ في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبلَ إلي، وإذا التفتُّ نحوه أعرضَ عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس، مشيتُ حتى تسورتُ جدار حائط أبي قتادة، وهو ابنُ عمي وأحبُّ الناس إلي، فسلمتُ عليه، فوالله ما ردَّ علي السلام، فقلتُ: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحبُّ الله ورسوله؟ فسكتَ، فعدتُّ له فنشدته، فسكتَ، فعدتُّ له فنشدته، فقال: اللهُ ورسولُه أعلم، ففاضتْ عيناي وتوليتُ حتى تسورتُ الجدار.
قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبَطيٌّ من أنباط أهل الشأم ممَّنْ قدم بالطعام يبيعُه بالمدينة يقول: مَنْ يدلُّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناسُ يشيرون له، حتى إذا جاءني دفعَ إليَّ كتابًا مِنْ ملك غسّان، فإذا فيه:
(أما بعد: فإنه قد بلغني أنَّ صاحبَك قد جفاك، ولم يجعلك اللهُ بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحقْ بنا نواسك).
فقلت لمّا قرأتها (أي الرسالة): وهذا أيضًا من البلاء، فتيممتُ بها التنورَ فسجرتُه بها ...".
ولننتبه إلى مدلول الخبر جيدًا، وهنا حدثٌ يقع في المدينة المنورة، فيصل خبرُه إلى ملك غسّان في الشام فيحاول أن يستفيد من الظرف، فأرسل خطابًا رسميًّا يعرضُ فيه على الصحابي كعب بن مالك أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم ويلحق به! وقد استخدم تاجرًا يتاجر بالطعام (حقيقةً أو تعميةً).
ولو وصلتْ إلينا تلك الرسالة ولم يحرقها كعب في لحظة غضبه لكانتْ وثيقة من أجلِّ الوثائق وأغلاها، وعلى أية حال فحسبنا رواية مضمونها في الصحيح.
***
وقال ابن حجر في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 637) في ترجمة الجُلَنْدَي ملك عُمان:
"ذكر وثيمة في كتاب «الرّدّة» عن ابن إسحاق أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعثَ إليه عمروَ بنَ العاصي يدعوه إلى الإسلام، فقال [أي الجُلندى ملك عُمان -وكان في صُحار-]: لقد دلّني على هذا النبيّ الأميّ، أنه لا يأمرُ بخيرٍ إلا كان أولَ آخذٍ به، ولا ينهى عن شرٍّ إلا كان أولَ تاركٍ له، وأنه يَغلِبُ فلا يَبطرُ، ويُغلَبُ فلا يُهجَرُ، وأنه يفي بالعهد، وينجزُ الوعدَ، وأشهد أنه نبيٌّ".
وإذا تأمّلنا في قول الجُلندى لاح لنا أنه أخضع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومسيرته لرقابة شديدة جدًّا، بحيث توصَّل بعدُ إلى هذه النتيجة الدقيقة، وهي أنه لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم (يأمرُ بخيرٍ إلا كان أولَ آخذٍ به، ولا ينهى عن شرّ إلا كان أولَ تاركٍ له، وأنه يَغلِبُ فلا يَبطرُ، ويُغلَبُ فلا يُهجَرُ، وأنه يفي بالعهد، وينجزُ الوعدَ). وقاده هذا إلى إعلان إسلامه.
هذه ثلاثة شواهد، وثَمَّ غيرُها، والموضوع مشوقٌ دقيقٌ، جديرٌ بالاستكمال.
وفيه درسٌ عظيمٌ للدعاة أن حياتهم مرصودة كذلك، فليكونوا على بصيرة.
***
الاستخبارت. السيرة النبوية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة