مدونة عبدالحكيم الأنيس


رؤوس أقلام (منوعات في العلم والأدب) (153)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


24/02/2024 القراءات: 264  


أبو حنيفة والحديث:
قال العلامة مفتي دمشق حامد العمادي (1103 - 1171) في كتابه "الدُّر المستطاب في موافقات عمر بن الخطاب وأبي بكر وعلي أبي تراب وترجمتهم مع عدة من الأصحاب" المصور عندي عن نسخة مكتبة الأوقاف العامة في بغداد:
"وأما أصحاب الرأي عند الفقهاء والمحدِّثين [فهم] أصحابُ القياس والتأويل، يعنون أنهم يأخذون بآرائهم فيما يشكل من الحديث، أو لم يأت فيه حديثٌ ولا أثرٌ، كأصحاب أبي حنيفة، وأصحاب أبي الحسن الأشعري رضي الله عنهم أجمعين، لا مطلقًا كما زعم بعضُهم، ويتركون العمل بالحديث، فقد روى نوح بنُ دراج أنه سمع أبا حنيفة يقول: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترناه، وما كان غير ذلك فهم رجال ونحن رجال.
قال أكملُ الدين شارحُ "الهداية" في رسالةٍ له سمّاها "نصرة مذهب الإمام أبي حنيفة": كان أبو حنيفة -رحمه الله- ‌رجلًا ‌كثير ‌الاعتناء [بالأخذ] بالحديث، حتى جوَّز نسخ الكتاب بالحديث؛ لقوة منزلة الحديث، وعمل بالمراسيل وقدَّمها على الرأي، وقدَّم رواية المجهول على القياس، وقدَّم قول الصحابي على القياس. قال نصر بن محمد: ما رأيتُ رجلًا أكثر أخذًا للآثار مِن أبي حنيفة رضي الله عنه. انتهى.
وقال ابنُ حزم: جميعُ الحنفية مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أنَّ ضعيف الحديث عنده أولى من الرأي.
ورُوي عنه رضي الله عنه أنه قال: عجبًا للناس يقولون أفتي بالرأي، وما أفتي إلا بالأثر.
وعنه أيضًا: ليس لأحد أن يقول برأيه مع كتاب الله، ولا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مع ما أجمع عليه أصحابُه، وأمّا ما اختلفوا فيه فنستخير من أقاويلهم أقربَه إلى كتاب الله تعالى، وإلى السُّنة، ونجتهد، وأمّا ما جاوز ذلك فالاجتهاد بالرأي لمَنْ عرَف الاختلاف وقاس".
***
مخالفة الحنفية للحديث:
قال الشيخ عبدالحي اللكنوي في مسألة مخالفة الحنفية للحديث:
"أقول: تفرَّق الناسُ من قديم الزمان إلى هذا الأوان في هذا الباب إلى فرقتين [في الأصل: الفرقتين]:
طائفة قد تعصبوا في الحنفيةِ تعصبًا شديدًا، والتزموا بما في الفتاوى التزامًا شديدًا، وإنْ وجدوا حديثًا صحيحًا، أو أثرًا صريحًا على خلافه، وزعموا أنه لو كان هذا الحديث صحيحًا لأخذ به صاحبُ المذهب ولم يحكمْ بخلافه. وهذا جهلٌ منهم بما روته الثقات عن أبي حنيفة من تقديم الأحاديث والآثار على أقواله الشريفة، فتركُ ما خالف الحديث الصحيح رأيٌ سديدٌ، وهو عينُ تقليدِ الإمام لا ترك التقليد.
وطائفةٌ زعموا أنَّ الإمامَ قاس على خلاف الأخبار، وهجرَ ما وردَ به الشرعُ والآثار، فظنُّوا في حقه ظنونًا سيئة، واعتقدوا عقائد قبيحة.
ومطالعة "الميزان" [للشعراني] لهم نافعٌ، ولأوهامهم دافعٌ.
فليتخذ العاقلُ مسلكَ البين، ويهجر طريقَ الطائفتين" .
***
الشيخ أمجد الزهاوي أبو حنيفة الصغير:
حدثني الأخ الكريم الشيخ الدكتور بلال البحر مكاتبةً قال -وفقه الله-: "حكى لي الشيخُ عبدالهادي العيساوي رحمه الله، وكان ممن تخرَّج بالشيخ عبدالعزيز بن سالم السامرائي رحمه الله في المدرسة الآصفية في الفلوجة، وانتدبه الشيخُ إمامًا في مسجد بالصقلاوية (من ضواحي الفلوجة)، واتَّفق أنه حضر أول جمعة فيه؛ فلم يكن العدد الذين شهدوا الجمعة إلا دون العشرين، فكتب الشيخُ عبدالهادي إلى شيخه العلامة عبدالعزيز يُعْلِمه بالحال؛ فأمره الشيخُ عبدالعزيز من فوره بالقدوم عليه إلى الفلوجة، فلما قدم وشرح له الحال واستثبته، حرَّر له الشيخُ عبدالعزيز فتيا بترك الجُمعة، وإغلاق المسجد، وأن الناس يصلونها ظهرًا في بيوتهم على مذهب الشافعي.
ثم إن الأمرَ بلغ الشيخَ نجمَ الدين الواعظ رحمه الله؛ فغضب وقال: إن المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي المعمول به في الدولة؛ فينبغي أن تُصلَّى الجمعة على مقتضاه، ولا يُغلق المسجد، وأصدر أمرًا بتوجيه مَنْ له الأمرُ في الأوقاف أنْ يُباشروا إعادة افتتاح المسجد يوم الجمعة وأداءَ الصلاة فيه، فبلغ الأمرُ الشيخ عبدالعزيز فعارضه، ووقعت بينهما منازعة، ثم تراضيا أن يحكم في المسألة العلامةُ الشيخُ أمجد الزهاوي، وانتدبوا إمام المسجد الشيخَ عبدالهادي راوي هذا الخبر، أن ينحدر إلى بغداد لعَرْض المسألة على الشيخ أمجد، وحرَّر له الشيخُ عبدالعزيز صورةَ فتيا شرح فيها الحال والمسألة، وما وقع من النزاع فيها.
قال الشيخ عبدالهادي: فركبت الماطور إلى بغداد، وطرقت بابَ منزل الشيخ أمجد؛ فخرجت خادمةٌ سوداء كأنها من سريلانكا، وأدخلتني إلى غرفة مكتبة الشيخ، فدخلتُ وسلَّمتُ وجلستُ قبالة الشيخ، فلم يَشْعر بي، حتى إنه لم يردَّ عليَّ السلام لعدم شعوره، وكان جالسًا على (قنفة) مِن خشب ليس عليها شيء، وبيده كتابٌ يُطالع فيه، وقد غطى الكتابُ وجهَه، ثم أحضرت لي الخادمةُ الشاي؛ فانتبه الشيخُ لي من صوت حركة الملعقة في الكأس، ورحَّب بي وقال: تفضَّل يا ابني، فدفعتُ إليه الرسالةَ التي فيها الاستفتاء، فتأملها ثم تبسَّم، ودعا الخادمةَ فأحضرتْ له قلمًا وأوراقًا، ثم شرع في الكتابة، وحرَّر عشرةَ أوراق كبار في المسألة؛ علَّق فيها مِن حفظه جزءًا لطيفا؛ سرد فيه مذاهب الفقهاء، وساق أدلتهم، وعلل مذاهبهم، ورجَّح وجوب الجمعة وانعقادها بمثل هذا العدد، ونصَّ على أنها تنعقد باثنين سوى الإمام، ثم ختم الأوراقَ بخاتمه ووضعها في ظرفٍ ودفعه إليَّ.
قال العيساوي: فأخذتُ الأوراقَ في الظرف، وعُدت للفلوجة، فعرضتُ رسالةَ الشيخ الزهاوي على الشيخ عبدالعزيز، فقرأها ثم قبَّلها ووضعها على رأسه، وأمرني أن أُصلي بالناس الجمعةَ، واستمرت الجمعةُ تُقام بالمسجد حتى نُقلتُ منه، وكان الشيخ عبدالهادي يقول: إن هذه الأوراق عنده بختم الشيخ أمجد.
ولما بلغ الشيخَ نجم الدين الواعظ كلامُ الزهاوي قال: هذا أبو حنيفة الصغير .. وسمعتُ أستاذنا عبدالحميد العُبيدي يقول: كان العلماء ببغداد يلقبون الزهاوي بذلك".
***
وصية الإمام:
شرحها أكمل الدين البابرتي (ت: 786)، وطُبع الشرح بتحقيق: محمد صبحي العايدي وحمزة محمد وسيم البكري، دار الفتح، عمّان، ط2 (1463-2015).
***


منوعات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع