مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
الحج مؤتمر السلم العالمي (5)
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
13/07/2024 القراءات: 160
رابعاً: البُعْدُ العبادي:
ويتمثل بلباس الإحرام، الذي يرتديه الحاج، بعد أن يخلع ثيابه العادية ضمن عملية واضحة الأهداف والدلالات، تبدأ بتقطيع كل أشكال العلاقات العنصرية، التي تربطه مع الأهل والعشيرة والوطن، وتنتهي بالتلبس بعلاقات توحيدية عالمية خالصة.
فأول عمل يقوم به الحاج: هو توديع الأهل والأقارب والعشيرة والوطن، متجهاً إلى حياة تخيم عليها الروح العالمية الخالصة، فلا أبناء ولا وطن ولا لغة قومية ولا زي قومي في الحج. وإنما علاقات إنسانية هي علاقة التوحيد، ووطن عالمي سواء فيه العاكف والباد، وهو مكة، ولغة عالمية هي اللغة العربية، وزي عالمي هو الإحرام، الذي تتساوى فيه الطبقات الاجتماعية المختلفة، وتمحى عنده الفوارق العنصرية، ومحور موحد تطوف حوله وفود الحجيج وهو الكعبة، التي يرمز الطواف حولها إلى بلوغ المؤمن نهاية القرب من الله سبحانه وتعالى، والذي تتقطع عنده أسباب الدنيا، وعلاقات الأرض العنصرية، وتتكامل على انقاضها العلاقات الروحية.
يقول هاملتون جب: "إن شعيرة الحج تعد عاملاً قوياً في تطبيق مبداً توحيد العالم، فهي رمز للإخاء الذي يربط المسلمين بعضهم ببعض، دون تفرقة لونية أو عنصرية".
فقد كان حجاج بيت الله الحرام من الأندلس والمغرب والسودان والصين والملايو يخرجون في رحلة الحج قبل موعده بعام أو أكثر أو أقل، ومعنى هذا أنه في كل وقت تقريباً كانت هناك قوافل حجاج تقصد بيت الله الحرام، أو تعود منه، ألوفاً بعد ألوف من الناس، يخرجون من أطراف الأرض الأربعة، ووجهتهم بيت الله الأكرم، وهم في مرورهم بالمدن والواحات يذكرون الناس بوحدة الدين، التي تجمع بعضهم إلى بعض. والكثيرون منهم كانوا يستقرون بعد الحج أينما شاءوا من بلاد الإسلام، فكأن قوافل الحج كانت أسلحة محاريث قوية تشق الأرض الإسلامية، وتقلب تربتها، وتأذن لشمس العقيدة أن تتخللها في عمق، وتبعث فيها الحياة، وهذا بلا شك. كان في تقدير الخالق سبحانه حين فرض على أمة الإسلام الحج إلى بيته الحرام.
وليس من شك أن الدور العالمي الذي يلعبه الحج في المجتمع الإسلامي دور سلمي وقائي، يحمي المجتمع من أخطار التمزق العنصري، التي لم يكن في التاريخ ما هو أشد منها خطراً على قضية السلم والأمن في العالم.
وهكذا الدعاء في الطواف (الأشواط السبعة)، إنما هي تضرُّع لله وحده، وبعدما ينتهي من طواف الأشواط السبعة، فإنه يصلي ركعتين، وهما ركعتا الطواف وهما سنة مؤكدة، ويقرأ في الركعة الأولى سورة الكافرون، وفي الركعة الثانية سورة الإخلاص، وكل منهما لها مدلول عظيم، الأولى في تحقيق التوحيد والثانية في الإخلاص.
وبعدها ينطلق الحاج أو المعتمر إلى الصفا، يقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، وذلك لفِعل النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو لتحقيق التوحيد، وبيان عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وتتجلى فيه مظاهر التوحيد في أعمال السعي بين الصفا والمروة.
أما الدعاء في يوم عرفة فأمره عظيمٌ، إذ فيه تتجلى مظاهر الإخلاص في الدعاء، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان أكثَرُ دُعاءِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم يَومَ عَرَفةَ: (لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَه، لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، بيَدِه الخَيرُ، وهو على كُل شَيءٍ قَديرٌ).
ثم المبيت بمزدلفة وما جاء به من الدعاء بعد الإفاضة والنزول من عرفات، قال الله تعالىك {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198].
ثم جميع أعمال يوم العيد (من رمي الجمار ونحر، وحلق أو تقصير، وطواف وسعي)، كلها تتكرر وتظهر فيها مظاهر التوحيد.
فجميع مناسك الحج شاهدة على توحيد رب البرية سبحانه وتعالى، حيث يظهر فيها العبد ذلَّه وتعظيمه وخوفه ورجاءه، واستعانته بالله وحده دون سواه.
إذن الحج مؤتمر عالمي للسلام، وله دور سلمي وقائي، يحمي المجتمع من أخطار التمزق العنصري بكل أشكاله وألوانه.
الحج، البعد العبادي، الطواف، الصفا والمروة، الأشواط السبعة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع