مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


12/02/2025 القراءات: 5  


الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله
لقد جبل اللهُ تعالى الخلقَ على حبِّ الحياة، والحرص عليها، والكفاح من أجل البقاء فيها، فما في الكون أحدٌ سويّ الفطرة إلا ويسعى جاهداً للحفاظ على حياته، فالوحوش في فَلَواتها وغاباتها، والطيور في فضائها، والأسماك في بحارها، تدافع الموتَ وتصارعه، وما وُجِدَ حيٌّ إلا وهو ذو حرص على الحياة.
لذلك من تعجَّل الموتَ حرَّم اللهُ تعالى عليه الجنةَ، قال الله تعالى في الحديث القدسي، فيمَن قتل نفسه: (بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [رواه البخاري].
ولكن الحياة الحقيقية المطلوبة شرعاً هي الحياة في سبيل الله تعالى، الحياة التي يقول الله تعالى فيها لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
إن الحياة في سبيل الله تعالى أصدقُ وصفٍ يمكن أن نصف به حياةَ الرعيلِ الأول من الصحابة الكرام، ولْنأخذ أبا بكر الصديق رضي الله عنه مثالاً على ذلك:
فقد (سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْماً قَائِلاً: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ اليَوْمَ صَائِماً؟)
قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا!
قال: (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ اليَوْمَ جَنَازَةً؟)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا!
قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ اليَوْمَ مِسْكِيناً؟)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا!
قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ اليَوْمَ مَرِيضاً؟)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ) [رواه مسلم].
ولا يبعد أن يكون من الصحابة مَن كان عمله ذلك اليوم كعمل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولكنه لم يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجواب أبي بكر رضي الله عنه دونهم لا يعني تفرده بتلكم الأعمال، وإن كان فيه إبراز لفضيلته.
وسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدلُّ على تتبُّعه حالَ أصحابِه، حتى يطمئن على كونهم يعيشون الحياة في سبيل الله تعالى.
فالحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله، لأن حياة الاستقامة الصادقة على مراد الله تعالى، فعلاً وتركاً، ظاهراً وباطناً، وموافقة الشريعة في مقاصدها ووسائلها، ولا شك أن هذا يعني الوصول إلى مرتبة الصّدِّيقية التي هي أعلى مراتب الإيمان بعد النبوة، كما يشير إليه الباري سبحانه بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، فمقام الصِّدِّيقِينَ أعلى من مقام الشُّهَدَاءِ؛ غير أن هذا لا يعني بخس الشُّهَدَاءِ حقهم ولا تهوين جهادهم، ولكن لكل درجات مما عملوا.
والحياة إن لم تكن لله تعالى فهي فارغة المعنى والمحتوى، قال الله تعالى ذاماً اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]، فاليهود أحرص الناس على أي نوع من الحياة! حياةِ الذل والانكسار والصغار! حياةِ العربدة والفجور، وأما المؤمن فحرصه على نوع واحد من الحياة، وهي الحياة في سبيل الله تعالى.
والشهادة بذاتها في سبيل الله تعالى ليست غاية منشودة، بل هي لحفظ الحياة، تمامًا كما قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، ورُبَّ موتِ فرد كان سببًا في هِبةِ الحياة لأمة من الناس، ولذلك أمر الله تعالى بأخذ الحيطة والحذر، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]، ولهذا أيضاً شرعت صلاة الخوف أيضاً، ولأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلبس الدرع والمغفر في الحرب، أما حياة المؤمن في سبيل الله فغاية منشودة، وهي أشق وأصعب من الموت في سبيل الله تعالى، لأن الحياة في سبيل الله أصل، والموت في سبيله استثناء، والذين يجيدون الحياة في سبيله هم الذين يحركون دفة النهضة والبناء وعمارة الأرض.
والجهاد في سبيل الله إنما شرع ليحيا الناس حياة كريمة سعيدة هانئة، لا يخافون من العدوان عليهم، فيشيع الأمن والأمان في المجتمع المسلم، ويستطيع المرء أن يؤدي شعائر دينه وأوامر ربه دون خوف أو وجل.
والمؤمن ينال درجة الشهداء بنيته الصادقة وإن لم يصبها، فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) [رواه مسلم].
ولقد صور صاحب الظلال قضية المسلم التي يحيا من أجلها بقوله: "إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير... فما له والنوم، وما له والراحة، وما له والفراش الدافئ والعيش الهادئ والمتاع المريح؟!).
والذي خاض في هذا الخضم الشائك المترامي الأطراف مع شياطين الإنس والجن يدرك المصاعب المتكاثرة المعترضة في طريقه، كما عبر عن ذلك عباس حسن السيسي رحمه الله تعالى حين قال:"الحياة في سبيل الله أشقُّ من الموت في سبيل الله ألف مرة".
وهذا ما أصًّله الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى للمجاهدين الأفغان بعد أن نزغ الشيطان بينهم فقال: "لقد أتقنتم – أيها المجاهدون – الموت في سبيل الله، ولم تتقنوا الحياة في سبيل الله، فشأن الحياة في سبيل الله لا يقل شأناً عن الشهادة في سبيل الله".
وهذا ما أراده الداعية محمد الغزالي رحمه الله تعالى وهو يقول في لوعة بعد مصائب مؤلمة: "أريد أن أفهّم أبناء جماعة المسلمين أن الحياة في سبيل الله كالموت في سبيل الله".
وبهذا الفهم الدقيق علّمنا الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قائلاً: "أنا لا أزال حبيساً في سبيل الله حتى أموت".


الحياة، سبيل الله، الموت، بادرني، الجنة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع