مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم......
باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM
08/07/2023 القراءات: 358
قال ابن الجوزي: دخلت على صدقة بن الحسين الحداد وكان فقيها غير أنه كان كثير الاعتراض، وكان عليه جرب فقال: هذا ينبغي أن يكون على جمل لا علي، وكان يتفقده بعض الأكابر بمأكول فيقول: بعث لي هذا على الكبر وقت لا أقدر آكله، وكان رجل يصحبني قد قارب ثمانين سنة كثير الصلاة والصوم فمرض واشتد به المرض فقال لي: إن كان يريد أن أموت، فيميتني، فأما هذا التعذيب فما له معنى.
والله لو أعطاني الفردوس كان مكفورا. ورأيت آخر يتزيا بالعلم إذا ضاق عليه رزقه يقول أيش هذا التدبير؟ وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا، وربما قالوا: ما تريد نصلي. وإذا رأوا رجلا صالحا يؤذى قالوا: ما يستحق، قد حاف القدر، وكان قد جرى في زماننا تسلط من الظلمة فقال بعض من يتزيا بالدين: هذا حكم بارد، وما فهم ذاك الأحمق أن الله يملي للظالم. وفي الحمقى من يقول: أي فائدة في خلق الحيات والعقارب، وما علم أن ذلك أنموذج لعقوبة المخالف وبلغني عن بعض من يتزيا بالعلم أنه قال: اشتهيت أن يجعلني وزيرا فأدبر. وهذا أمر قد شاع فلهذا مددت النفس فيه.
واعلم أن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكا وعلا على الخالق بالتحكم عليه، وهؤلاء كلهم كفرة؛ لأنهم رأوا حكمة الخالق قاصرة. وإذا كان توقف القلب عن الرضا بحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخرج عن الإيمان.
قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] .
فكيف يصح الإيمان مع الاعتراض على الله تعالى؟ وكان في زمن ابن عقيل رجل رأى بهيمة على غاية من السقم فقال: وا رحمتي لك، وا قلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك. فقال له ابن عقيل: إن لم تقدر على حمل هذا الأمر لأجل رقتك الحيوانية، ومناسبتك الجنسية، فعندك عقل تعرف به تحكم الصانع، وحكمته توجب عليك التأويل، فإن لم تجد استطرحت لفاطر العقل، حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك.
واعلم أن رضا العقل بأفعال الخالق سبحانه وتعالى أو في العبادات أشدها وأصعبها. ثم ذكر كلام ابن عقيل وفيه: وقد نبهنا على العجز عن ملاحظة العواقب فقال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم.
ففي عقولنا قوة التسليم وليس فيها قدرة الاعتراض عليه. وقد يدعو الإنسان فلا يجاب فيندم، وهو يدعى إلى الطاعة فيتوقف، فالعجب من عبيد يقتضون الموالي اقتضاء الغريم، ولا يقتضون الغريم ولا يقتضون أنفسهم بحقوق الموالي.
قال ابن الجوزي: ومن تأمل دقائق حكمته ومحاسن صفاته أخرجه حبه إلى الهيمان فيه، فإن المعاني المستحسنة تحب أكثر من الصور، ولهذا تحب أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - رضي الله عنهم - لمعانيهم لا لصورهم، فكيف لا تقع المحبة المختصة بالكمال المنزه عن نقص؟ فوا أسفا للغافلين عنه، ووا حسرتا للجاهلين به.
وقال ابن الجوزي قبل ذلك: من نظر إلى أفعاله بمجرد العقل أنكر، فأما من علم أنه مالك وحكيم، وأن حكمته قد تخفى سلم لما لم يعلم علته بأفعاله مسلما إلى حكمته.
وقد قال بعض الحكماء: من لم يحترز بعقله من عقله هلك بعقله. وهذا
كلام في غاية الحسن، فإنا إذا قلنا للعقل هو حكيم قال: لا شك في ذلك؛ لأني قد رأيت عجائب أفعاله المحكمة فعلمت أنه حكيم، فإذا رأيت ما يصدر ما ظاهره ينافي الحكمة، نسبت العجز إلي، ولو لم يكن في ذلك إلا أن المراد تسليم العقول لما ينافيها، وذلك عبادة العقول قال: وصار هذا كما خفي عن موسى حكمة فعل الخضر، وقد يخفى على العامي ما يفعله الملك فقد قال المتنبي:
يدق عن الأفكار ما أنت فاعل
وقال ابن عقيل في الفنون: الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة، ودورا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة قال: انظر إلى ما أعطاهم مع سوء أفعالهم، ولا يزال يلعنهم ويذم معطيهم ويسقف حتى يقول: فلان يصلي الجماعات والجمع، ولا يذوق قطرة خمر، ولا يؤذي الذر، ولا يأخذ ما ليس له، ويؤدي الزكاة إذا كان له مال، ويحج ويجاهد، ولا ينال خلة بقلة، ويظهر الإعجاب كأنه ينطق عن تخايله أنه لو كانت الشرائع حقا لكان الأمر بخلاف ما نرى، وكان الصالح غنيا والفاسق فقيرا. ما ذاك إلا لأنه لحظ أن الله أعطى هذا أموال الأيتام والوقوف، بأن يأكل الربا ويفاسد العقود، وهذا افتئات وتجوز وسخط في غير موضعه.
فإن لله كتابا قد ملأه بالنهي وحرمان أخذ المال الحرام وأكله بغير حق، فلو كان منصفا لقال له تدبر هذا كتاب الله مملوء بالنهي والوعيد، فصار الفريقان ملعونين، هذا بكفره وهذا بارتكاب النهي. ومن الفساد في هذا الاعتقاد أنه لا يبقي في العقل ثقة إلى دلالة قامت على شريعة أو حكم.
فإن ينبوع الثقة ومصدرها إنما هو من قبيل أنه سبحانه لا يؤيد غير الصادق، ولا يلبس الحق بالباطل.
فإذا لم تستقر هذه القاعدة فلا ثقة وقال أيضا: إذا تأمل المتدين أفعال الخلق في مقابلة إنعام الحق استكثر لهم شم الهواء، واستقل لهم من الله سبحانه أكثر البلاء، إذا رأى هذه الدار المزخرفة بأنواع الزخاريف، المعدة لجميع التصاريف واصطباغا وأشربة وأدوية، وأقواتا
وإداما وفاكهة، إلى غير ذلك من العقاقير، ثم إرخاء السحاب بالغيوث في زمن الحاجات ثم تطييب الأمزجة وإحياء النبات، وخلق هذه الأبنية على أحسن إتقان، وتسخير الرياح والنسيم المعد للأنفاس، إلى غير ذلك من النعم، ثم نعمة العقل والذهن ثم سائر الآيات الدالة على الصانع، ثم إنزال الكتب التي تحث على الطاعات وتردع عن المخالفة، ثم اللطف بالمكلف، وإباحة الشرك مع الإكراه، وأمر بالجمعة فضايقوه في ساعة السعي بنفس ما نهى عنه من البيع في أنواع العبادات، وعظموا كل ما هونه وارتكبوا كل ما هونه حتى استخفوا بحرمة كتابه، فأنا أستقل لهم كل محنة.
وقال أيضا: لا تتم الرجلة في العبد حتى يكون في مقام اختلال أحواله، وإشباط أخلاطه وأفراحه، وتسلط أعدائه ثابتا بثبوت المتلقي والمتوقي، فيتلقى النعم بالشكر لا بالبطر، متماسكا عن تحرك الرعن، وعند المصائب مستسلما ناظرا إلى المبتلى بعين الكمال، وعند اشتطاط الغضب متلقيا بالحكم، وعند الشهوات مستحضرا للوعد والوعيد، فسبحان من كمن جواهر الرجال في هذه الأجساد،
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع