تطور الصراع الأيديولوجي في المجتمع العربي الحديث الجزء الأول
د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim
28/02/2024 القراءات: 404
بدأت ملامح الصراع الأيديولوجي في مصر في أواخر حكم محمد على، حيث آلت إليه السلطة في مصر بعد صراع مرير بين كلا من: الفرنسيين، والشعب المصري، والمماليك، والعثمانيين، لكن محمد على استطاع الانفراد بحكم مصر من بين جميع المتصارعين، وبعد أن استتب له الحكم تطلع إلى الانطلاق بمصر نحو التقدم على النهج الأوربي، وقد رأي أن ذلك لن يتم إلا من خلال التعليم، ولكن التعليم في مصر آنذاك كان بعيدا عن الواقع المعاصر، فكان لابد من الانفتاح الثقافي على الغرب المتقدم حضاريا.
ورغم أن محمد على كان رجلا أميا إلا أنه كان يؤمن بأن تطلعاته للنهوض بمصر لن تتم من خلال النظام التربوي المصري القديم، الذي كان يعتمد على تدريس بعض كتب التراث في بعض الأماكن القليلة جدا كالجامع الأزهر، وأن هذه التطلعات لابد لتحقيقها من الاستفادة من تجارب الآخرين في هذا الشأن، ولكن الغريب في الأمر أن محمد على عمل على إلباس المجتمع التعليمي الإسلامي الثوب الغربي، مع المحافظة على الأصول الثقافية الإسلامية للمجتمع المصري، كما يبدو من المراحل التي اتخذها:
المرحلة الأولى: إرسال البعثات العلمية.
أرسل محمد علي البعثات العلمية الواحدة تلو الأخرى إلى العواصم الغربية المتحضرة، وجعل على كل بعثة قائدا أزهريا يحفظ لباقي الأفراد دينهم ودنياهم، وكانت أهم أغراض هذه البعثات: تكوين جيل من العلماء والمتخصصين، وترجمة أصول الكتب في مختلف الفنون، وقد بلغ تعداد هذه البعثات في عصر محمد على سبع بعثات، كانت الأولى إلى إيطاليا.
وقد كان محمد علي حريصا على احتفاظ المبعوثين بأيديولوجيتهم الإسلامية وعدم التأثر بالغرب في هذا الشأن، ومما يؤكد على ذلك معاقبته لمن يتأثر يتأثر بالإيديولوجية الغربية، كما فعل مع أدهم بك رئيس المدفعية الذي تأثر بالإنجليز وتزيا بزيهم وحاكاهم في عاداتهم وأحوالهم، فاستقدمه محمد علي إلى مصر فور أن علم بحاله.
المرحلة الثانية: استقدام الخبراء.
عمل على استقدام الخبراء من أوربا لإنشاء المدارس في مصر والتعليم فيها، واتفق معهم في البداية على أن يكون هناك مترجم ينقل للطلاب بالعربية، ثم بعد ذلك شجعهم على تعلم العربية والتدريس بها، وبذلك احتفظ لمصر بأيديولوجيتها الإسلامية ولغتها العربية، ونقل إليها علوم الغرب، كما نقل الفاروق الدواوين عن الفرس والروم.
ومن هذا المنطلق غرس محمد على بذور نهضة مصرية إسلامية حديثة، تراعي تغيير الفروع، وتحافظ على الأصول التي لا تتأثر بتغير عاملي الزمان والمكان، وقد أثمر هذا الغرس عن تقدم ملحوظ في مصر في جميع المجالات، وظهور نخب إسلامية متحضرة أثرة الحياة آنذاك.
ولكن الغرب المتربص لم يكن ليترك مصر تتقدم، وجاء الاحتلال الإنجليزي إلى مصر بقضه وقضيضه؛ ليوقف هذه الصحوة العلمية الصافية، ويقيم مكانها ما يضمن انقطاع مصر عن أصولها الإسلامية وزعزعة هويتها، فكان أول قرار اتخذه الاحتلال هو: إلغاء التعليم باللغة العربية وفرض التعليم باللغة الإنجليزية، وأسس المدارس التي وضع الاحتلال مناهجها، وعين مدرسيها من المستشرقين والمستغربين؛ لتسهيل عملية الغزو الثقافي للنخب المصرية؛ لأن الاحتلال كان يدرك حتمية انتهاء الاحتلال وتطلع الشعوب للخلاص منه، ومن هنا عمل بكل جهده على تسريع وتيرة الغزو الثقافي من خلال التشجيع على التحاق أبناء النخب بالمدارس التي أقامها، وقد كان يوظف الخريجين في المناصب المرموقة بأجور مرتفعة، وفي المقابل يتجاهل خريجو الأزهر وهم من أبناء العامة والفلاحين، ويوظفهم في أماكن غير مؤثرة وبأجور متدنية، هذا بالإضافة إلى دعم وتنظيم حملات التنصير والاستشراق.
وكان نتاج ذلك خروج نخب مصرية تحمل أيديولوجيات بأسماء عربية وقلوب غربية، شكلت التيار الأيديولوجي اليساري في مصر، والذي كان يهدف إلى تغريب المجتمع المصري وفصله عن الثقافة الإسلامية بالجملة في الظاهر والباطن.
أيديولوجية ، تعليم، تغريب
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
من المفارقات العجيبة أن قائدا أميا كمحمد على أدرك منذ قرون الفرق بين الاستفادة من منجزات الآخر والذوبان في الآخر في الوقت الذي غفل المعاصرين عنه
وذلك فعلا من المضحكات المبكيات
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة