مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


...ومن يتوكل على الله فهو حسبه

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


31/05/2023 القراءات: 208  


قد كان المتوكل يبعث إلى أولاد الإمام أحمد الألوف، وإنما كان صالح سخيا، فالسخي الذي لا يحسب إلا خيرا لا يفي سخاؤه بما يلقى إذا افتقر.
واعلم أن الإمساك في حق الكريم جهاد لأنه قد ألف الكرم، كما أن إخراج ما في يد البخيل جهاد. فإنما يستعين الكريم على الإمساك بذكر الحاجة إلى الأنذال قيل لبعض الحكماء: لم حفظت الفلاسفة المال؟ فقال: لئلا يقفوا مواقف لا تليق بهم.
قال ابن الجوزي: وقد رأيت أنا ببغداد من الصوفية من كان له مال، ودخل فكان الخلق يتقربون إلى السلاطين ويطلبون منهم وهو لا يبالي فكنت أغبطه على ذلك؛ لأن من احتاج إلى السلاطين يذلونه ويحتقرونه وربما منعوه، فإن أعطوه أخذوا من دينه أكثر قال الرشيد لمالك بن أنس: أتيناك فانتفعنا وأتى سفيان بن عيينة فلم ننتفع به، وكان ابن عيينة يقول: قد كنت أوتيت فهما في القرآن فلما أخذت من مال أبي جعفر حرمت ذلك.
وإن احتاج الإنسان إلى العوام بخلوا فإن أعطوا تضجروا ومنوا. وقل من رأيناه ينافق، أو يرائي، أو يتواضع لصاحب دنيا إلا لأجل الدنيا. والحاجة تدعو إلى كل محنة، قال بشر الحافي: لو أن لي دجاجة أعولها خفت أن أكون عشارا على الجسر:
فينبغي للعاقل أن يجمع همه ليقبل على العلم والعمل بقلب فارغ من الهم وبعد فإذا صدقت نية العبد، وقصده رزقه الله تعالى، وحفظه من الذل ودخل في قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا - ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 2 - 3] .
ويأتي كلام ابن عقيل نحو ثلثي الكتاب في إخراج المال والكرم والله أعلم.
وقال أيضا في كتاب السر المصون من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل الفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل زادت المرتبة في دار الجزاء، انتهب الزمان، ولم يضيع لحظة ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حصلها، ومن وفق لهذا فليبتكر زمانه بالعلم، وليصابر كل محنة وفقر، إلى أن يحصل له ما يريد، وليكن مخلصا في طلب العلم عاملا به حافظا له، فإما أن يفوته الإخلاص فذاك تضييع زمان وخسران الجزاء، وإما أن يفوته العمل به فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له، وإما جمعه من غير حفظ، فإن العلم ما كان في الصدور لا في القمطر.
ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل إلى أن قال: وليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن خصوصا العوام، وليصن نفسه من المشي في الأسواق فربما وقع البصر على فتنة، وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس، وليزاحم القدماء من كبار العلماء والعباد منتهبا الزمان في كل ما هو أفضل من غيره، ومن علم أنه مار إلى الله عز وجل وإلى العيش معه، وعنده وإن أيام الدنيا أيام سفر صبر
على تفث السفر ووسخه انتهى كلامه.
وقد قال أيضا: لو صدقت في الطلب، (لوقعت) على كنز الذهب، ولو وجدوك مستقيما، ما تركوك سقيما شعر:
وربما غوفص ذو غفلة ... أصح ما كان ولم يسقم
يا واضع الميت في قبره ... خاطبك القبر ولم تفهم
خاضوا أمر الهوى في فنون ... فزادهم في اسم هواهم حرف نون
وقال أيضا: اعلم أن الراحلة لا تنال بالراحة ومعالي الأمور لا تنال بالراحة، فمن زرع حصد، ومن جد وجد:
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
لا يعجبنك لينها فجلد الحية كالحرير، ولقد رأيت كيف غرت غيرك والعاقل بصير.
أترى ينفع هذا العتاب؟ أترى يسمع لهذا العذل جواب؟ إذا أقلقهم الخوف ناحوا، وإذا أزعجهم الوجد صاحوا، وإذا غلبهم الشوق باحوا. شعر:
وحرمة الود ما لي عنكم عوض ... وليس والله لي في غيركم غرض
ومن حديثي بكم قالوا به مرض ... فقلت لا زال عني ذلك المرض
انتهى كلامه.
وقد روى مسلم بعد جمعه لطرق وأسانيد أظنه في حديث النهي عن يحيى بن أبي كثير وهو تابعي إمام عابد أنه قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم وقد قيل.
ليس اليتيم الذي قد مات والده ... إن اليتيم يتيم العلم والأدب
وإذا كان الأمر كما قاله أبو الفرج بن الجوزي في كتابه المذكور فينبغي للمشايخ الإحسان إليهم، والصبر على ما يكون منهم واللطف بهم، لئلا يتضاعف ألمهم وهمهم، فيضعف الصبر، وتحصل النفرة عن العلم، واستحباب ذلك من الطلبة أولى بهم والأدب والتلطف وما يعينهم على المقصود. وقد قال تعالى: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام: 54] .
وفي الصحيحين من حديث أنس «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا» .
وفي مسلم من حديث أبي هريرة «إنما بعثتم ميسرين» وقد ذكرت قوله لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: «بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا» ، وكان أبو سعيد يقول: مرحبا بوصية رسول الله.
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا إسماعيل بن عياش حدثني حميد بن أبي سويد عن عطاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: «علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف» . حميد له مناكير تكلم فيه ابن عدي وغيره، ويأتي قبل ذكر الكرم والبخل في فضول الكسب قول محمد بن عبد الباقي الحنبلي: يجب على المعلم أن لا يعنف، وعلى المتعلم أن لا يأنف.
وقال الأعمش: كان ابن مسعود إذا جاءه أصحابه قال: أنتم جلاء قلبي. ويأتي في أول فصول العلم قول عمر - رضي الله عنه -: تواضعوا لمن علمكم، وتواضعوا لمن تعلمون، ولا تكونوا من جباري العلماء، ويأتي بعده في فصل قال المروذي: قول عمر لا تعلم العلم لتماري به، ولا لترائي به، ولا لتباهي به، ولا تتركه حياء من طلبه ولا زهادة فيه، ولا
رضاء بالجهالة، وقول ابن عمر وغيره: من رق وجهه رق علمه، وما يتعلق بذلك.
وقال عمرو بن العاص لحلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة فلما قضى طوافه جلس إليهم، وقد نحوا الفتيان عن مجلسهم، فقال: لا تفعلوا أوسعوا لهم وأدنوهم وألهموهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين قد كنا صغار قوم أصبحنا كبار آخرين.
وهذا صحيح لا شك فيه، والعلم في الصغر أثبت فينبغي الاعتناء بصغار الطلبة لا سيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم، فلا ينبغي أن يجعل على ذلك صغرهم أو فقرهم وضعفهم مانعا من مراعاتهم، والاعتناء بهم، وقد سبق في هذا الفصل قريبا كلام الشاشي.


ومن يتوكل على الله فهو حسبه


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع