مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ (2)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


27/02/2024 القراءات: 305  


كما شرع الصوم جبرانا لنقص أو تفاديا لخطأ، أو خروجا من مأزق؛ فمن صيام الجبران الصيام عن دم التمتع.
ومن التفادي للخطأ عدل دم الصيد وجزائه. ومن الخروج من المأزق الكفارة عن الظهار واليمين وغير ذلك. وهكذا تطور مشروعيته وينفسح تشريعه مما خص به الصيام دون غيره من العبادات.
وإن للقرآن الكريم منهجا خاصا في سبيل تشريع الصيام جملة وتفصيلا وللصيام خصائص وحكم. لكل عبادة في الإسلام خصائصها وحكمتها، وكلها أنواعُ غذاءٍ للروح تتنوع كأنواع غذاء البدن.
فالصلاة: تنهى عن الفحشاء، وتغسل الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنهر جار أمام بيت أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات"، وتأتي يوم القيامة نورا على الصراط: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وكما في الحديث: "والصلاة نور والصدقة برهان".
والزكاة: طهرة للمال وتزكية لصاحبها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي طهرة للمال من شوائب الحقوق وتعلق عيون المساكين، وزيادة له وحصن. "ما نقص مال من صدقة". "حصنوا أموالكم بالزكاة".
والحج: منافع للناس عاجلا وآجلا: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} .
وفي الحديث: "من أفاض من عرفات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وأيضا: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". هذه هي آثار الصلاة والزكاة والحج فما هي آثار الصيام.
الواقع أنها كلها عبادة لله تعالى تعبدنا بها وأوجبها علينا ولا يستطيع إنسان الإحاطة بحكم العبادات لأنها حق لله ولا يعلمها إلا هو غير أننا أشرنا إلى بعض ما جاءت به النصوص فيما تقدم.
أما الصوم فقد تناولته أقلام عديدة وحاولت أن تنسب إليه حِكماً شتى في أكثر من جانب إلا أن البعض قد يذهب إلى جوانب مادية كالعلاج وصحة البدن أو إنسانية كالعطف على المساكين والشفقة وهذه وإن كان الصوم يفيدها إلا أنه لا يختص بها فقد تحصل بغيره. والبعض قد يذهب إلى جانب خلقي تربوي يتعلق بالقوى النفسية من بهمية وسبعية. وروحانية ملكية وأن الصوم إضعاف للأولى بتقليل الطعام، فتتقوى الثانية. وقد يستأنس لذلك بحديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه". وهذه أيضاً تابعة للأولى لم تخرج عن الماديات ونطاق الحواشي.
ولكن القرآن نص صراحة على أهم خصائص الصيام وحكمته وأبان بأنها الحكمة والغاية من الأديان كلها. وأنها أخص خصائص الشريعة الإسلامية وهي "التقوى" وذلك في معرض التشريع الأول للصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
و"لعل" أداة نص على العلة والحكمة التي هي التقوى وحقيقة التقوى الوقاية والستر كما قال الشاعر:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
وهي صيانة المرء من نوازع النفس، وهي جماع الأمر كله في عامة الأديان السماوية ودعوة الأمم السابقين وهذا باب واسع. وقد نص القرآن على أن الغاية من عبادة الناس أولهم وآخرهم من جميع الأمم هي التقوى كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، ومعلوم أنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا عبادته كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} فتكون التقوى بمضمون هاتين الآيتين هي الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس.
ثم جاء النص في حق كل أمة ابتداء من قوم نوح عليه السلام في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
وكذلك عاد لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
وكذلك ثمود لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
وقوم لوط لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
وأصحاب الأيكة لقوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
فكل نبي يدعوا قومه إلى التقوى.
وجاء القرآن كله دعوة إلى التقوى.
وهداية المتقين كما في مطلع القرآن الكريم: {ألم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ، وبيَّن نوع هدايتهم وطريقة عبادتهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
فبين أن الكتاب الكريم كله إنما هو هداية للمتقين وبيان أعمالهم في العقائد والعبادات.
وأنها مرتبطة بالتقوى وارتبطت بها نتائج عظام عاجلا وآجلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} حتى طريق العلم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ولو وقع في مأزق جاءته التقوى فأخرجته: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} .


يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ (2)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع