مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


سلسلة أمهات المؤمنين مارية القبطية رضي الله عنها(1)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


28/04/2023 القراءات: 438  


مارية الصابرة
ولقد أثار الوضع الجديد غيرة أمهات المؤمنين، إذ أصبح النبي ﷺ لصوقاً بمارية دونهن، كما أنها أنجبت الولد دونهن جميعاً، فعلى الرغم من كل الغيرة التي اعتملت في نفوس زوجات النبي، ظلت هي على رزانتها وحيائها وسكينتها… حتى عندما ائتمرت حفصة وعائشة عليه، فاضطر رسول الله ﷺ إلى أن يقول لقد حرمت مارية على نفسي. لم يزدها ذلك إلا تبسماً ورضًى وصبراً، ثم أنزل الله تعالى قوله: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم).
الحكمة الربانية
كان مولد إبراهيم عزاءً وسلوى ورجاءً وأملاً، واستمرت الفرحة ستة عشر شهراً تزغرد في بيت مارية، ولكن هذه الآمال لم تدم طويلاً، إذ مرض الطفل مرضاً شديداً، فقامت مارية وأختها سيرين على تمريضه، ورعايته… لكن المرض اشتد، ولم يمهله،…
وظهرت عليه ذات يوم علائم الاحتضار، فبلغ النبي ﷺ فحزن حزناً شديداً، وتألم ألماً بالغاً، وأحس بضيق لم يحسه من قبل. فأتى دار مارية معتمداً على أحد الصحابة، لشدة ما أحس به من ألم وما أصابه من عياء، فوجد إبراهيم في حجر أمه الباكية، يجود بآخر أنفاسه، فأخذه منها برفق ووضعه في حجره، وضمه إلى صدره ليهدئ القلب المضطرب، والصدر اللاهث… ثم غمره ﷺ حزن شديد، وقال: إنّا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئاً، ثم تساقطت عبراته ودموعه، وصرخت مارية متألمة، وصاحت أختها سيرين باكية، ولم ينهها الرسول عن ذلك، وأخذ ينظر إلى جثمان فلذة كبده المسجّى في حجره ولا حراك به، ولا حياة ينبض بها، وتبددت الآمال التي أشرقت يوم مولده… وذهبت شعاعاً مع روحه التي استردها ربها، فقال ﷺ: يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك أشد من هذا. وكأنه عليه الصلاة والسلام يواسي بهذه الكلمات مارية الأم المسكينة، وقد أحس في أعماق ذاته الشريفة مدى مرارتها، مبلغ تألمها. ومسح ﷺ، وجفف عبراته، وهو يقول ﷺ: «إِنَّ الْعَينَ لَتَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَنَقُولُ إلاّ مَا يَرَْضى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْْزُونُونَ» (أخرجه البخاري).
الموكب الحزين
سار رسول الله ﷺ وهو يحمل جثمان ولده بين يديه، وعمه العباس بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) إلى جانبه، وطائفة من كبار الصحابة يحيطون به. وامتلأ قلب مارية هماً وغماً، وغشي عليها الحزن لفراق ولدها الوحيد، ثم وصل الموكب إلى البقيع حيث دفن إبراهيم بعد أن صلى عليه رسول الله ﷺ، ثم وقف على لحده يلقنه قائلاً والغصة تمتزج بالكلمات: قل: الله ربي، ورسول الله أبي، والإسلام ديني… وارتفع البكاء في تلك اللحظة الخاشعة، صوت ما عرف عنه الهلع ولا الخوف إلا في جنب الله تعالى، إنه صوت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: هذا ولدك يا رسول الله ما بلغ الحلم، وما جرى عليه القلم، ولا يحتاج إلى تلقين، فما بال عمر وقد بلغ الحلم وجرى عليه القلم وليس له ملقن مثلك… فبكى النبي ﷺ وبكى الصحابة.
وأقبل بعض الصحابة يواسونه ويعزونه، محاولين تخفيف المصاب عنه، وقال أحدهم مذكراً رسول الله  بما نهى عنه من الحزن… فقال النبي ﷺ: ما عن الحزن نهيت، و إ نما نهيت عن العويل، وإن ما ترون بي أثر بالقلب من محبة ورحمة، ومن لم يُبدِ الرحمة لم يُبدِها عليه غيره.
الرسول الأمين
وحدث أن كسفت الشمس يوم وفاة إبراهيم، ووجد بعض الناس في ذلك معجزة، فقال قائلهم: لقد انكسفت الشمس لموت إبراهيم مشاركة للنبي  في مشاعره وأحاسيسه، فقال ﷺ للناس: (إِنَّ الشمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لاَ يَخْسفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولاَ لحيََاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا وَكَ وِّربُا و صلُّوا و تَصدَّقُوا (متفق عليه)… فأعظم به من جلد وأعظم به من صبر، وأعظم به من نبي أمين…
مارية المؤمنة الصابرة
عاد النبي إلى دار مارية (رضي الله عنه) مواسياً ومعزياً، ولم يكن عليه الصلاة والسلام ليغفلها أو يتجاهلها بعد أن فقدت ولدها، إذ كان يتردد عليها كعادته السابقة. وسلمت مارية المؤمنة أمرها إلى الله تعالى، فهو الذي أعطى وهو الذي أخذ، وكل شيء عنده سبحانه بمقدار. ولم تكن (رضي الله عنه) لتملك أن ترد دموعها الصامتة كلما لاحت ذكرى إبراهيم في نفسها. ولم تحمل بعد إبراهيم، وكانت حياتها في سعادتها وشقائها بلاءً وامتحاناً، وأثبتت خلاله أنها من المسلمات المؤمنات الصادقات، اللاتي يقتدى بهن، ويحتذى بسلوكهن، وينسج على منوالهن.
بعد النبي ﷺ
بعد أن لحق النبي ﷺ بالرفيق الأعلى، كان خلفاؤه من بعده يحفظون لمارية (رضي الله عنه) مكانتها، ويخصونها بأعطياتها من بيت المال، وينفقون عليها، ويزورونها..، سواء في عهد أبي بكر أو في عهد عمر (رضي الله عنهما). يأتونها سائلين عن أحوالها، ويواسونها، وفاءً منهم لنبيهم العظيم ﷺ.
الوفاة
ولما كان العام السادس عشر من الهجرة النبوية الشريفة مرضت مارية (رضي الله عنها) واشتدت عليها وطأة الحمى ثم أسلمت الروح، فحزن المسلمون عليها حزناً شديداً، وشهد عمر أمير المؤمنين (رضي الله عنه) جنازتها، وحشد الناس إلى ذلك، وصلى عليها، ودفنت بالبقيع.
رحمها الله رحمة واسعة، ورضي عنها، وأكرم نزلها ومثواها.


سلسلة أمهات المؤمنين مارية القبطية رضي الله عنها(1)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع