مدونة الدكتور محمد محمود كالو


الطعن بالقدوات.. مشروع الزنادقة

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


26/07/2023 القراءات: 190  


الطعن بالقدوات.. مشروع الزنادقة
إن ظاهرة الطعن على العلماء، والأخيار، والفضلاء، ولمزهم، وغمزهم، والحط من شأنهم، والجناية عليهم، ومحاولة تحطيم هذه القدوات الرفيعة في الأمة؛ لهي من أعظم الجنايات على الدين، وهي مشروع الزنادقة والفسقة، وهي خرق يتسع يوماً بعد يوم بسبب تكالب الأعداء على الأمة، واستغلال فترات ضعفها.
ولقد هالني ما سمعته من إقامة مناظرة علنية في وسائل التواصل الاجتماعي "حوار حول عقيدة النووي" رحمه الله تعالى، حيث استغرقت أربع ساعات من إضاعة للوقت والجدال العقيم، إذ يطعن بعضهم في الإمام النووي، ويصفه بأنه ضال مبتدع، إنها لجريمة علمية أن يأتي أمثال هؤلاء ليتناظروا في عقيدة إمام أجمعت عليه الأمة قاطبة، فما هذه الجرأة الوقحة على أئمة الإسلام!
وأرى أن الذي دعا هؤلاء للمناظرة ما وُجد في زماننا هذا ممن نال من الإمامين، أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، وأبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي، المتوفى سنة 676هـ، فحكم عليهما بأنهما من المبتدعة والضالين!
وبلغت السفاهة ببعضهم أن قال بوجوب إحراق كتابيهما "فتح الباري شرح صحيح البخاري" و"شرح صحيح مسلم"!
لقد كان الإمام النووي مهيبًا، قليل الضحك، عديم اللعب، يقول الحق وإن كان مرًّا، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان الزهد والورع أهم ملامح شخصيته؛ حيث أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أنه كان رأسًا في الزهد، قدوة في الورع، عديم النظير في مناصحة الحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان رحمه الله لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخرة، وكان لا يأخذ من أحد شيئا، وكان كثيرًا ما يكاتب الأمراء والوزراء، وينصحهم لما فيه خير البلاد والعباد، ومن جميل ما قال فيه الشاعر ابن الوردي:
لقـيتِ خيراً يا نوى ووقـيـتِ مـن ألَـمِ الـنوى
فـلقـد نـشا بكِ عالم للـه أخـلـص مــا نــوى
وعلا عُلاه وفضـله فضل الحبوب على النوى
وقد بارك اللّه تعالى للإمام النووي في وقته، وأعانه، فأذاب عُصارة فكره في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة، تلمسُ فيها سهولةَ العبارة، وسطوعَ الدليل، ووضوحَ الأفكار، وما زالت مؤلفاته ومصنفاته حتى اليوم تحظى باهتمام كل مسلم، فماذا بين الإمام النووي وربه من خبيئة وخفايا وشأن عظيم حتى يبلغ كتبه الآفاق، وأن يدرس في كل مسجد، وفي كل دار تحفيظ ومعهد علم شرعي!
وقال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء متحدثاً عن الإمام النووي:
"الشيخ الإمام القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الفقيه، المجتهد الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الأنام".
وقال عنه ابن كثير: "الشيخ الإمام، العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب ومذهبه، وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، كان على جانب كبير من العلم والعمل والزهد والتقشف، والاقتصاد في العيش والصبر على خشونته، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل".
وقد وَصَف الحافظُ السخاوي الإمامَ النووي بقطب العلم والولاية في مقدمة ترجمته للإمام رضي الله عنه.
وجاء في الطبقات الكبرى للتاج السبكي في ترجمة الإمام النووي رحمه الله تعالى:
«أستاذ المتأخرين، وحجة الله على اللاحقين، والداعي إلى سبيل السالفين».
- كان إماماً مجمعاً على جلالته، وكان كنبي الله يحيى سيداً وحصوراً
ولما رحل الإمام الجليل تقي الدين السبكي لزيارة الإمام النووي رحمهما الله تعالى في حياته ووجده قد توفي، فصار يبكي ويمرغ خده في محل جلوس الإمام النووي ويقول:
وفي دار الحديث لطيف معنى
على بسط لها أصبو وآوى
عسى أنى أمس بحر وجهي
مكانا مسَّه قدم النواوي
عاش الإمام النووي (٤٦ سنة) فقط، ورغم هذا فقد ترك من المؤلفات ما لو قسم على سني حياته لكان نصيب كل يوم كراستين؛ فإذا علمنا أنه لم يبدأ العلم إلا في سن (١٨ سنة)، فأي عزيمة وبركة في العمر آتاه الله إياها!!
توفي الإمام النووي سنة (٦٧٦هـ) بعد أن رجع إلى نَوى وردَّ الكتب المستعارة من الأوقاف، وزار مقبرة شيوخه، فدعا لهم وبكى، وزار أصحابه الأحياء وودّعهم، وزار والدَه، وزار بيت المقدس والخليل، ثم عاد إلى نوى؛ فمرض بها، ومات في ٢٤ من رجب؛ فرحمه الله رحمةً واسعة.
وقد أفرد بالترجمة عن الإمامَ (النوويَّ) جماعةٌ مِن أكابر الأئمة، منهم:
1- تلميذه المُختَصُّ به الإمام علاء الدين ابن العطار (ت 724هـ)، سماه (تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين)، وترجمتُه أمُّ التراجم، وكلُّ مَن جاء بعده قد اعتمد عليها بلا استثناء.
2- تقي الدين محمد بن الحسن اللَّخْمي المعروف بابن الصَّيْرَفي (ت 738هـ).
3- كمال الدين محمد بن محمد المعروف بابن إمام الكاملية (ت 874هـ)، سماه (بغية الراوي في ترجمة الإمام النواوي).
4- شمس الدين السَّخاوي (ت 902هـ)، سماه (المنهل العذب الرَّوِي في ترجمة قطب الأولياء النووي).
5- جلال الدين السُّيوطي (ت 911هـ)، سماه (المنهاج السَّوِي في ترجمة الإمام النووي).
وكلُّ هذه المُصنَّفات مطبوعة بحمد الله تعالى.
كما أفرده بالترجمة:
- آخَرون مِن الأئمَّة، لم تصِلْنا مُصنَّفاتهم.
- ومعاصرون، أشهرهم: الشيخ علي الطَّنْطاوي، والشيخ عبد الغني الدَّقْر الدِّمشقيان.
- وباحثون، مِن أجود أعمالهم: (الإمام النووي وأثره في الحديث وعلومه)، للدكتور أحمد عبد العزيز الحداد اليمني.
وأخيراً: أسأل الله عز وجل لجميع أئمتنا وخاصة الإمام الحافظ النووي المغفرة والرحمة وأن يجزل له الأجر والمثوبة على ما خلفه من تراث علمي عظيم، نفعه لطلاب العلم عميم، وأن يصلح أحوال المسلمين، وأن يوفقهم للفقه في الدين، والثبات على الحق المبين.


الطعن بالقدوات، مشروع الزنادقة، الفسقة، أعداء الأمة، أئمة الإسلام


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع