مدوّنة الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب القباطي
الانحراف في باب البدعة والتّبديع في مسائل الخلاف الفقهيّ المعتبر (2)
الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب | Associate Professor Dr. Muneer Ali Abdul Rab
28/04/2023 القراءات: 414
إنّ الله -تعالى- أمر عباده بالاعتصام بحبله، ونهاهم عن الفرقة والتّنازع، فقال تعالى: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ) (آل عمران: 103). لكن ابتعد كثير من النّاس عن شرع الله، وعن معينه الصّافي، ففسدت الأخلاق، وتصدّعت وحدتهم، وتعدّدت أحزابهم، حتّى أصبحت الفوضى شعارهم، والتّفرّق دثارهم. وممّا يُكلم فؤادَ المتأمّل لأحوال الأمّةِ الإسلاميّة في الواقع المعاصر ويحيّر لبَّه، ما ظهر من أبنائها من التّراشق بالألفاظ البذيئة والقبيحة، والانشغال ببعضهم بعضًا، والقدح في أئمّة الإسلام، ممّن علا كعب قدره، وسما فضله، ولقد وصل الضّلال ببعضهم إلى أن يهجر مساجد المسلمين، ممّن ينتمون إلى مذهب أهل السّنّة والجماعة، بزعمهم أنّها مساجد للمبتدعة، كما وصل الحال ببعضهم إلى موالاة من أمر الله بمعاداتهم؛ نكاية فيمن خالفه في مسائل الفروع. وقبل أن يشرع الباحث في بيان حدود البدعة والتّبديع، سوف يعرّج إلى تعريفهما بإيجاز.
تعريف البدعة لغة: قال صاحب معجم (مختار الصّحاح): ب د ع: (أَبْدَعَ) الشّيء: اخترعه لا على مثال. وَاللَّهُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ (مُبْدِعُهُمَا). وَ (أَبْدَعَ) الشّاعر: جاء بالبديع، وشيءٌ (بِدْعٌ) بِالْكَسْرِ أَيْ مُبْتَدَعٌ، وفلانٌ (بِدْعٌ) فِي هَذَا الْأَمْرِ أَيْ بَدِيعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9)، وَ (الْبِدْعَةُ): الحدثُ في الدِّين بعد الإكمال. وَ (اسْتَبْدَعَهُ): عَدَّهُ بَدِيعًا. وَ (بَدَّعَهُ تَبْدِيعًا): نَسَبَهُ إِلَى الْبِدْعَةِ (al-Razi,1999). والمراد بالبدعة في هذا البحث: الحدث في الدّين، وبدّعه في الدّين: إذا نسبه إلى البدعة.
تعريف البدعة اصطلاحًا: تعدّدت ألفاظ أهل العلم في تعريف البدعة، وسوف يذكر الباحث أهمّ تعاريف أهل العلم. فعرّفها محمّد بن الوليد الطّرطوشيّ بأنّها "الّتي ليس لها أصل في كتاب الله، ولا سنّة، ولا إجماع، ولا غيره" (al-Tartushi,1998)، وقال ابن تيميّة: "إنّ البدعة في الدِّين هي ما لم يشرّعه الله ورسوله" (Ibn-Taimiyyah,2019)، وعرّفها الذّهبيّ بأنّها "ما لا يأمر الله به ولا رسوله، ولم يأذن فيه، ولا في أصله" (al-Thahabi,1996)، وقال الشّاطبيّ: البدعة "طريقة في الدّين مخترعة، تضاهي الشّرعيّة، يقصد بالسّلوك عليها المبالغة في التّعبّد لله -سبحانه- " (al-Shatibi,1992)، وقال ابن رجب: "البدعة ما أحدث ممّا لا أصل له في الشّريعة يدلّ عليه" (Ibn-Rajab,2001)، وعرّف ابن حجر العسقلانيّ المحدثات بأنّها ما أحدث وليس له أصل في الشّرع، ويسمّى في عرف الشّرع بدعة، وما كان له أصل يدلّ عليه الشّرع فليس ببدعة، قال: فالبدعة في عرف الشرع مذمومة، بخلاف البدعة في اللّغة؛ فإنّ كلّ شيء أحدث على غير مثال يسمّى بدعة، سواء كان محمودًا أو مذمومًا (Ibn-Hajar,1379)، وكذلك عرّفها العينيّ بأنّها ما أحدث وليس له أصل في الشّرع (al-‘Aini,n.d)، وغيرها من التّعاريف. وجلّ هذه التّعاريف متقاربة ومتّحدة في المعنى، ويرى الباحث أنّ تعريف الشّاطبيّ أجمع وأشمل التّعاريف؛ لأنّه قيّدها بالدّين على غير مثال سابق، ووصفها بأنّها تشابه الطّريقة الشّرعيّة، وفي الحقيقة تخالفها، واحترز بذلك الطّريقة المخترعة في الدّنيا، كالصّناعات والمخترعات الحديثة، فإنّها لا تسمّى بدعة، كما أدخل شائبة البدعة في هذا القيد: يقصد بالسّلوك عليها المبالغة في التّعبّد لله -سبحانه-.
وهؤلاء العلماء -رحمهم الله- لم يتوسّعوا في معنى البدعة؛ حيث جعلوا البدعة مخالفة للسّنّة، ومذمومة شرعًا؛ لأنّها محدثة لا أصل لها في الدّين، وليس هناك بدعة محمودة وبدعة مذمومة، كما ذكر العلماء الّذين توسّعوا في معنى البدعة، كالشّافعيّ (al-Subki,n.d)، والعزّ ابن عبدالسّلام (al-Ezz Ibn Abd al-Salam)، والقرافيّ (al-Qarafi,n.d)، وغيرهم، وإنّما كلّ بدعة ضلالة، وهذا القول هو الصّواب؛ للحديث الصّحيح عن العِرباض بن سارِية قال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ، فَقَالَ: «عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلَافًا شَدِيدًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (Ibn Majah,n.d,42)، ولفظ "كلّ" عام شامل لكلّ بدعة، ولما ثبت في الصّحيحين من حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" (al-Bukhari,1993,n2697, Muslim,1955,n1718)، فكلّ ما أحدث في دين الله ما ليس منه، فهو بدعة وضلالة، مردود على محدثه. قال ابن الماجشون: سمعت مالكًا يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، زعم أنّ محمّدًا -صلّى الله عليه وسلّم- خان الرّسالة؛ لأنّ الله يقول: {اليومَ أكملتُ لكمْ دينَكم} (المائدة: 3)، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا (al-Shatibi,1992).
البدعة، حدود، الخلاف
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع