مدوّنة الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب القباطي


رمضان رياض الصّالحين وزاد المتّقين

الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب | Associate Professor Dr. Muneer Ali Abdul Rab


10/05/2020 القراءات: 3015   الملف المرفق


إنّ شهر رمضان شهر مغنم وأرباح، عرف حقيقته حبيبُنا ومعلّمنا ومرشدنا ومخرجنا من الظّلمات إلى النّور محمّد - صلّى الله عليه وسلّم - ، وعلّم الصّحابةَ الكرام هذه الحقيقة، ثمّ عرف تلك الحقيقةَ السّلفُ الصّالح، فكان منهم القارئ، ومنهم الباكي، ومنهم الرّاكع، ومنهم السّاجد، ومنهم المعتبر، ومنهم الذّاكر، ومنهم المتأمّل، ...عرفوا أنّ مقصد ومدلول الصّيام التّقوى؛ تدبّراً لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "، فربطوا صيامهم بالتّقوى، وأنفسهم بالتّطلّع إلى ما عند الله من النّعيم المقيم، فهانت الدّنيا عندهم، وعلموا أنّها لاتصلح للقرار، وعظمت الآخرة في قلوبهم، فصبروا وصابروا ونغّصوا بالصّيام لذّة الهوى، حتّى أصبحت أبدانهم واهية من الجوع والضّرر، وأجفانهم قد حالفت في اللّيل السّهر، ودموعهم تجري كقطرات المطر، قد تأهّب القوم للسّفر، يحدوهم ركوب الخطر ... فما أجمل أحوال العبّاد فيه، وما أرقّ قلوبهم وهم يستمعون إلى كلام الله - تعالى - ، فتجد جنبات مساجدهم تعجّ بالخنين والنّحيب والبكاء، وتسمع لقلوبهم أزيزاً كأزيز المرجل، قد تحوّلت عباراتهم إلى عبرات، وترجمت مكنون نبراتهم إلى زفرات، عيونهم باكية، ووجوههم شاحبة، وقلوبهم منكسرة، هجروا لذّة الفراش؛ ابتغاء مرضات الله، قال تعالى: " تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ "، وقال تعالى: " كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ". تصدق فيهم الأبيات التّالية وهي تصف بيوتهم وصيامهم وسماتهم:
بيوت الصّالحين لها دويّ  بذكر الله ربّ العالمين
لها نور من التّوفيق عالٍ  كأنّ شعاعه من طور سينا
صيام العارفين له خنين   إلى الرّحمن ربّ العالمين
تصوم قلوبهم في كلّ وقت  وبالأسحار هم يستغفرونا
القانتون المخبتون لربّهم   النّاطقون بأصدق الأقوال
يحيون ليلهم بطاعة ربّهم   بتلاوة وتضرّع وسؤال 
وعيونهم تجري بفيض دموعهم   مثل انهمال الوابل الهطّال 
في وجوههم أثر السّجود لربّهم   وبها أشعّة النّور المتلالي
يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا   الله أكبر في خوف وفي وجل 
أرواحهم خشعت لله في أدب   قلوبهم من جلال الله في وجل 
نجواهم ربّنا جئناك طائعة   نفوسنا وعصينا خادع الأمل 
إذا سجى اللّيل قاموه وأعينهم   من خشية الله مثل الجائد الهطل
هم الرّجال فلا يلهيهم   لعب عن الصّلاة ولا أكذوبة الكسل
هكذا كان أولئك الأخيار، لو كان أحدنا فيهم لعجب من الشّيخ الكبير، يبلغ من السّنّ عتيّا، فيهادى بين رجلين، وتخطّ قدماه في الأرض خطّا؛ ليدرك فضيلة صلاة التّراويح !!! ولعجب من تلك المرأة العجوز، وهي تحبو على يديها ورجليها، وقد احدودب ظهرها، وابيضّ شعرها، وتقاربت أنفاسها، وضعف جسمها، ووهنت عظامها، وخارت قواها، وتثاقلت قدماها، فتحبو وتحدوها الرّعشة؛ تنافساً على إدراك فضيلة صلاة التّراويح !!! فسبحان من أخشع قلوبهم وقلوبهنّ فكساها ذلّة وانتصارا !! سبحان من أبكى تلك العيون من خشية الله ليلاً ونهارا !!
سبحان من رفع أكفّهم إلى السّماء سائلة الله أن يرزقها جنّة ويبعدها نارا !!
وألّا يفضحها يوم العرض عليه فيكسبها خزياً وعارا !!
سبحان من شرح صدروهم بالطّاعات، ووفقهم لعمارة الأوقات بالصّالحات !!
فكم فيهم من تائب قبلت توبته، وداع استجيبت دعوته، ومكروب فرّجت كربته ..
آن لنا إخواني في الله أن نصدق مع الله في عبادته وطاعته ومراقبته، وأن نتذكّر أولئك الصّائمين الصّادقين فنحذو حذوهم. آن لنا أن نتذكّر صدق المخلصين، ودمعة التّائبين، وعطاء المتصدّقين، وإحسان المحسنين، وبكاء الخاشعين، ومراقبة الزّاهدين، وعبادة العلماء الرّبّانيّين ... فلنتذكّر ثمّ لنتأسّ بهم لاسيّما ونحن نعيش في أيّام خير الشّهور، لاسيّما ونحن نعيش في دار العمل، معافين في أجسامنا، وجوارحنا، فجدير بنا أن نسارع إلى الصّالحات، وحقيق علينا أن نغتنم هذه السّاعات، وخليق بنا أن نسخّر جوارحنا في طاعة الله؛ نيلاً لمرضاته، وفوزاً بجنّاته، فإنّا لانعلم هل سيؤول إلينا رمضان في العام المقبل، بل هل ياترى سنكمل عدّة رمضان في هذا العام؟ أم ستدركنا المنايا فلا يؤول إلينا !!! نسأل الله أن يتقبّل منّا ومنكم الصّيام والقيام، وأن يحفظ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.


رمضان، الصّالحين، زاد