مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


✍️{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا}(1)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


01/01/2023 القراءات: 593  


وما زلنا مع موسى الكريم عليه السلام لنتعلم منه كيفية القول اللين.
ففي موقفٍ من مواقف مواجهته لفرعون، وكلامه معه بالقول اللين، آذاه فرعون بالكلام وتوقَّح عليه، ووجه له ما يشبه الشتم والإهانة. فماذا فعل موسى عليه السلام؟؟.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا}.
كان من القول اللين: أن يكشف موسى عليه السلام لفرعون مغالطاته، وأن يبين له علمه بأن الآلهة المزيَّفة لا تملك شيئاً، ومعرفته بأنه لا إله إلا ربّ العالمين، لكنه يغالط في هذا، ويزعم إنكار الألوهية لله رب العالمين.
قال فرعون: إني لأظنك يا موسى مسحوراً.
أجابه موسى عليه السلام برجولة وجرأة وتحديد وصراحة: إني لأظنك يا فرعون مثبوراً -والمبثور هو الهالك الخاسر-.
والسؤال الذي نوجهه للناصحين المنظِّرين: هل كان موسى عليه السلام مخالفاً للقول اللين عندما قال لفرعون: إني لأظنك يا فرعون مثبورا؟.
والتساؤل الذي نطرحه: لو كان موسى عليه السلام يعيش في زماننا
هذا، وقال الكلام هذا. فبماذا يصفه الواصفون؟ ومع من يصنِّفونه؟ أقلُّ ما يقولونه عنه: إنه متعصبٌ متزمتٌ متشددٌ غليظٌ عنيفٌ قاسٍ منفر.
بهذا التفسير الواضح من موسى عليه السلام، يجب أن نفهم المراد بالقول اللين وكيفية ومجال قوله، ويجب أن نعرف كيف قال موسى هذا القول اللين لفرعون، من خلال الاطلاع على مشاهد المواجهة بينهما التي أشار إليها القرآن الكريم، والتي تعتبر هي التفسير العملي للأمر الرباني بالقول اللين.
بعد هذا نقول: إن القول اللين هو في أسلوب مخاطبة المدعوين -ومنهم المسؤولون- وفي ألوان هذا الخطاب، وفي درجته ومستواه، وفي القالب الذي تُقدَّم فيه الحقائق، والصورة التي تُعرض فيها، والإطار الذي تكون ضمنه، وفي اختيار الألفاظ والمفردات والتراكيب والعبارات، التي تدل على الموضوع.
ولا يمكن أن يكون القول اللين في الموضوع والمضمون، والحقائق والمقررات، والمعالم واليقينيات، والخطة والمنهج. لأن هذه الأمور لا تقبل المساومة ولا المفاوضة، ولا المداهنة ولا التنازل، ولا تأجيلها ولا إخفاءها.
القول اللين في أسلوب الخطاب لا مضمونه، القول اللين في عرض الحقيقة لا في جوهرها وكنهها.
يريد ناصحون من الدعاة أن يتنازلوا عن المضمون والجوهر باسم القول اللين، وأن يُخفوا الحقائق والمقررات باسم القول اللين، وأن يباركوا الفساد والانحراف والمنكر باسم القول اللين، وأن يتخاذلوا ويجبنوا ويذلوا أمام المسؤولين باسم القول اللين.
وهم ظالمون لأنفسهم ولإِخوانهم ولدينهم وإسلامهم. هم ظالمون لمفهوم ومعنى القول اللين، ظالمون لموسى في فهمهم عنه التزام القول اللين.
القول اللين: هو ما سبق أن أوردناه من بيان موسى عليه السلام دعوتَه ورسالتَه، وتقديمه نفسه لفرعون كما بيَّن القرآن.
ونأخذ معنى القول اللين وطريقة تنفيذه، من أوامر الله لمحمد عليه السلام، التي بلَّغها بطريقة القول اللين: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
ونأخذ القول اللين من ذلك المسلم الذي قال لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اتق الله. فقال له أحدهم: أتقول هذا لأمير المؤمنين؟ فأجابه عمر: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولاخير فينا إن لم نسمعها.
ونأخذ القول اللين من الإمام سفيان الثوري - رضي الله عنه - حيث بحث عنه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور حتى لقيه في موسم الحج فقال له:
لأي شيء لا تأتينا، فنستشيرك في أمرنا، فما أمرتَنا من شيء صِرنا إليه، وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه.
فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟.
قال: لا أدري، لي أمناء ووكلاء.
قلت: فما عذرك غداً إذا وقفت بين يدي الله تعالى، فسألك عن ذلك؟ لكن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما حج، قال لغلامه: كم أنفقتَ في سفرك هذا؟ قال -: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر ديناراً، فقال: ويحك، أجحفنا بيت مال المسلمين.
ثم قال الثوري للمنصور: قال رسول الله صلى الله عليه وصلم: رُبَّ مُتَخَوِّضٍ في مال الله ومال رسول الله فيما شاءت نفسه، له النار غداً.
فقال أبو عبيد الكاتب -أحد متزلفي الحاشية-: أمير المؤمنين يُستقبل بمثل هذا؟.
فأجابه سفيان: اسكت. فإنما أهلك فرعونَ هامانُ، وهامانَ فرعونُ.
ونأخذ القول اللين من الإمام عبد القادر الجيلاني - رضي الله عنه - حيث وقف على منبر مسجده محاسباً الخليفة المقتفي لأمر الله، ومنكِراً عليه تولية يحيي بن سعيد المشهور بابن المزاحمِ الظالمِ، القضاء. فقال الجيلاني للخليفة: وَلَّيْتَ على المسلمين أظلم الظالمين، فما جوابك غداً عند رب العالمين، أرحم الراحمين، فارتعد الخليفة وعزل المذكور.
***


✍️{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا}(1)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع