مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


✍️{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


01/01/2023 القراءات: 413  


✍️{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}
قال تعالى:
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
قد يتوجه أحدنا إلى أحد الأشخاص يدعوه إلى الله، وُيرغبه في الإسلام، ويواصل نصحه وتذكيره ووعظه، ويحرص على هدايته واستقامته وصلاحه، ولكن هذا الشخص يقابل كل ذلك بالصد والرفض والإعراض، فيصاب الداعية بالهمّ والحزن لخسارة الشخص المدعو.
وقد يَعْرض للداعية أحدهم في هذا الجو، ويعذله ويلومه -بل ويُخطئه- لما قام به، ويبين له عبث جهوده في الدعوة وضياعها، ويستشهد على كلامه بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
ومعنى هذه الآية -على حسب فهم الناصح العاذل- أنه لا فائدة من الدعوة والنصح والتذكير والبيان، وأن الناس لن يستجيبوا لذلك، لأن الله لا يريد أن يهديهم، فلماذا يُتعب الداعية نفسه معهم؟.
إذا ما قمت تدعو شخصاً إلى الله، يقف أمامك أحدهم ويقول لك: دَعْه، لا تَدْعُهُ، فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء.
وقد تجلس في مجلس، وتذكر أحد العصاة المذنبين، وتعلن عن رغبتك في دعوته ونصحه وتذكيره، فيقطع عليك أحدهم رغبتك، لأنك لا تهدي من أحببت.
وقد ترى أحد العصاة فتدعوه إلى الله، فيقول لك: دَعْني يا أخي ولا تَدْعُني، إنك لا تهديني، لأن هدايتي ليست بيدك بل بيد الله، والله لا يريد أن يهديني، ويحتج عليك بالآية: {إِنَّكَ لا تَهْدي مَنْ أَحْبَبْتَ}.
كل هؤلاء يجعلون هذه الآية مانعةً من الدعوة إلى الله، وأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتقديم الهداية لهم، ويجعلونها داعية إلى القعود واعتزال الناس.
وهذه أفهام خاطئة للآية، ومحرِّفة لمعناها.
وحتى نعرف معنى الآية ونقوم بالفهم الصائب لها، لابد من معرفة سبب نزولها: روى مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرتْ أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملَّة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلا الله.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك. فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
من سبب النزول نعرف الهداية التي نفت الآية أن تكون بيد الرسول عليه السلام -والدعاة من بعده- إنها هداية التوفيق للإيمان وقذفه في القلوب، وهذه لن تكون بيد البشر، بل بيد الله وحده سبحانه.
أما هداية الدعوة والتبليغ، ونشر الإسلام بين الناس ونصحهم ووعظهم، فهذه بيد البشر، واجبةٌ على كل مسلم حتى قيام الساعة.
وكم يعجبني كلامٌ رائعٌ للإمام الراغب الأصفهاني في كتابه الرائع: " المفردات في غريب القرآن " عن الهداية وأنواعها، وما كان منها بيد البشر وما لم يكن قال: " الهداية دلالة بلطف، ومنه الهدية ".
وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه:
الأول: هداية الفطرة: وهي الهداية التي عمّ بجنسها كل مكلف، من العقل والفطنة والمعارف الضرورية. كما قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.
الثاني: هداية الدعوة: وهي التي جعلها الله عن طريق دعوتهم إليه،على لسان الأنبياء والدعاة والمصلحين. قال تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدون بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَروا وَكانوا بِآياتِنا يوقِنون}.
الثالث: هداية التوفيق والتثبيت، التي يمنحها الله لمن اهتدى إليه، وسار في طريق الهدى، من المؤمنين الصالحين. قال تعالى: {وَالذينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُم}.
الرابع: الهداية إلى الجنة: حيث يهدي الله المؤمنين يوم القيامة، إلى منازلهم في الجنة. وهناك عندما يصلونها ويتنعَّمون فيها، يشكرون الله أن هداهم لها. {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ}.
وهذه الهدايات الأربع مترتبة على بعضها البعض:
فإن من لم تحصل له الأولى -وهي هداية الفطرة والعقل- لا تحصل له الثانية، بل لا يصحّ تكليفه.
ومن لم تحصل له الثانية -هداية الدعوة- لا تحصل له الثالثة ولا الرابعة.
ومن حصلت له الرابعة حصلت له الثلاث التي قبلها. ومن حصلت له الثالثة فقد حصلت له الاثنتان اللتان قبلها.
وقد تنعكس. فالإنسان قد تحصل له الأولى ولا تحصل له الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة.
والإنسان لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق -يعني الهداية الثانية وهي هداية الدعوة- دون سائر أنواع الهدايات.
وإلى هذا أشار بقوله تعالى: {وَإنَّكَ لَتَهْدي إِلى صِراطٍ مُسْتَقيم}.
يعني تدعو. وقوله تعالى: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}، يعني يدعون بأمرنا.
وقوله تعالى: {وَلكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}. يعني لكل قومٍ داعٍ يدعوهم إلى الله.
وكل هداية ذكر الله أنه منع الظالمين والكافرين منها، فهي الهداية الثالثة، وهي التوفيق الذي يختصّ به المهتدون، والرابعة وهي الثواب في الآخرة وإدخال الجنة.


✍️{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع