مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ}(1)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


11/01/2023 القراءات: 458  


أرادت الآيات أن تقرَّب هذا الأمر إلى أذهان الناس وأفهامهم، وأنها تريد أن تقول لهم: ما هي أطول المخلوقات التي ترونها عمراً؟ وما هي أكثرها دواماً؟ إنها السموات والأرض التي مرّ عليها حتى الآن ملايين السنين، ولا يعلم إلا الله كم بقي من عمرها! وكأنَّ الآيات تقول لنا: إن خلود الكفار في النار طويلٌ طويل، ودائمٌ دائم، ويُقرب لكم طوله وديمومته الالتفات إلى ديمومة السموات والأرض، أطول المخلوقات عمراً في الدنيا، وأكثرها دواماً.
أما تشابه الخلود بديمومة السموات والأرض في انقضائه وزواله كما تزول السموات والأرض في المستقبل، فهذا لم تُرده الآيات، ولم توحِ به، وهو يتعارض مع آياتٍ أخرى، تقرر خلودهم الأبدي الدائم.
أما تعليق خلودهم بمشيئة الله في قوله: {إلا ماشاء ربك} فلا يعني تحقق هذا الاستثناء عملياً، وإنما جيء به لمعنى اعتقاديٍّ أساسيٍّ أصيل، يتعلق بصفات الله سبحانه: إن مشيئة الله طليقةٌ لا يقيدها شيء، وإن إرادته سبحانه نافذة لا يعجزها شيء، فهو الذي أدخل الكفار في النار، وقرر خلودهم الأبدي فيها، ولو شاء الله أن يخرجهم منها لأخرجهم، إذ لا يمنعه من ذلك أحد، ولا يحاسبه على ذلك أحد -سبحانه- لكن هل سيخرجهم؟ الجواب بالنفي. لأن الله سبحانه هو الذي شاء أن لا يخرجوا، وأخبرنا بهذه المشيئة في آياتٍ أخرى، تقرر خلودهم في النار بإرادة الله ومشيئته وقضائه وحكمه وأمره.
{إلا ما شاء ربك} قيْدٌ لمعنى اعتقادي، وليس له مفهومٌ عمليٌّ واقعي - والله أعلم.
قال الأستاذ سيد قطب في تفسير الآية: {ما دامت السموات والأرض}: وهو تعبيرٌ يُلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار. وللتعبيرات ظلال، وَظِلُّ هذا التعبير هنا هو المقصود. وقد علّق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين، وكل قرارٍ، وكل سُنَّة معلقة بمشيئة الله في النهاية، فمشيئة الله هي التي اقتضت السنّة، وليست مقيدةً بها، ولا محصورةً فيها، إنما هي طليقة، تبدِّل هذه السنة حين يشاء الله. {إن ربك فعّال لما يريد}.
وقال الأستاذ الإِمام محمد رشيد رضا في المنار:
" خالدين فيها ما دامت السموات والأرض: أي ماكثين فيها مُكث خلودٍ وبقاء، لا يبرحونها مدة دوام السموات التي تظلهم، والأرض التي تُقلّهم. وهذا بمعنى قوله في آياتٍ أخرى: {خالدينَ فيها أَبَداً}. فإن العرب تستعمل هذا التعبير بمعنى الدوام. وقد غلط من قالوا: المراد مدة دوامهما في الدنيا، فإن هذه الأرض تبدّل وتزول يوم القيامة. وسماء كلٍّ من أهل النار وأهل الجنة ما هو فوقهم، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم، قال ابن عباس: لكل جنة أرض وسماء. ورُوي مثله عن السدي والحسن.
إلا ما شاء ربك: أي إن هذا الخلود الدائم هو المعَد لهم في الآخرة،
المناسب لصفة أنفسهم الجهول الظالمة، التي أحاطت بها ظلمة خطيئاتها، وفساد أخلاقها، إلا ما شاء ربك، من تغيير هذا النظام في طورٍ آخر، فهو إنما وُضع بمشيئة، وسيبقى في قبضة مشيئته. وقد عُهد مثل هذا الاستثناء في الأحكام القطعية، للدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئة الله تعالى فقط، لا لإفادة عدم عمومها، كقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} أي لا أملك شيئاً من ذلك بقدرتي وإرادتي، إلاّ ما شاء الله أن يملكنيه منه، بتسخير أسبابه وتوفيقه.
وناقش الإمام محمد رشيد رضا هذه المسألة، مناقشةً مستفيضةً مطولةً في تفسير سورة الأنعام، ونقل أقوالاً للصحابة والتابعين في معنى الاستثناء {إلا ما شاء ربك}، فقال: " وعن ابن عباس: إن الآية في أهل الكبائر الذين يخرجون من النار بالشفاعات. وعنه في الاستثناء قال: فقد شاء الله أن يخلد هؤلاء في النار، وهؤلاء في الجنة، وعن خالد بن معدان في الاستثناء قال: في أهل التوحيد من أهل القبلة. ومثله عن الضحاك ".
***


{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ}(1)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع