مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


سلسلة أمهات المؤمنين عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنهما)(2)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


21/04/2023 القراءات: 228  


وفوجئت عائشة (رضي الله عنها) بخيال فارس يأتي حيث تقف، فأرخت حجابها وعندما لمحها صفوان غض بصره، وقال في دهشة وعجب: ظعينة رسول الله؟ ما خلفك رحمك الله؟ وما الذي أخرجك؟ ثم نزل عن بعيره، وتأخر حتى ركبت ثم تقدم وأمسك بالمقود. وشُغِل بال رسول الله على عائشة حتى عادت واطمأن عليها وسمع بعذرها وصدقها. بعد أن افتقدها فلم يجدها واهتم لأمرها. وكان عندما أطل موكب صفوان وعائشة على مداخل المدينة المنورة ولمحه ابن سلول المنافق، الذي كان جالساً مع بضعة نفر من أتباعه، ومن هم على شاكلته، استيقظ الحقد في قلبه، ووجد المادة التي يتسلى بها والسم الذي ينفث، لينفس عن حقده وحسده لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى المسلمين، فقال: أيها الناس، ظعينة نبيكم عادت في ركاب رجل، والله ما نجت منه ولا نجا منها. وسرت أكذوبة ابن سلول بين الناس مسرى النار في الهشيم، وتناقلتها الألسنة تصريحاً وتلميحاً. لكن عائشة (رضي الله عنها) عنها دخلت منزلها خالية الذهن، لا تدري من أمر هذا الإفك والافتراء شيئاً.
داهم عائشة (رضي الله عنها) المرض فاستأذنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تذهب إلى بيت أبيها كي تقوم أمها على خدمتها ورعايتها. ولقي طلبها هذا سرعة استجابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما جعلها تحزن وتتوجس، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ليطيق فراقها أو ابتعادها عنه، ودخلت عائشة منزل والدها الصدّيق الحزين (رضي الله عنه) الذي ما انفك يدعو الله تعالى أن يبرئ ساحة ابنته. وقضت (رضي الله عنها) في بيت أبي بكر قرابة العشرين يوماً حتى شفيت من مرضها. وفي ليلة خرجت مع امرأة من الأنصار ممن كنّ يزرنها لقضاء حاجة بعيداً في الخلاء، وبينما كنّ في الطريق عثرت المراة بطرف ثوبها، وكادت تسقط أرضاً، فقالت: تعس مسطح، فانتفضت عائشة وقالت بحدة: بئساً تالله ما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهدوا بدراً… فقالت المرأة: عجباً، تدافعين عنه، أوَ ما بلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ فأجابت عائشة مستفسرة بدهشة: وما الخبر؟ فقصت عليها المرأة حديث الإفك، وما يشاع عنها، وما يروجه دعاة السوء من أقاويل وافتراءات. وكان مسطح بن أثاثة واحداً من الذين أطلقوا لألسنتهم العنان، ينالون به من شرف عائشة (رضي الله عنها) وسمعتها.
ولما فرغت المرأة من الحديث، كاد يغمى على عائشة (رضي الله عنها) فتماسكت وعادت إلى البيت تبكي وتنتحب، وتلوم أمها لأنها كتمت عنها الخبر رأفةً بها، وراحت الأم تخفف من حدة غضب عائشة والدموع تنهل من عينيها فتغسل وجهها، وتقول: أي بنية، هوني عليك الشأن، فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند زوج يحبها ولها ضرائر، إلا كثرن، وكثر الناس عليها، لكن أين عائشة وأين أمها!!
لقد كانت في هم شديد، كانت الدنيا كلها في نظرها مظلمة سوداء. فقعبت في الدار متوارية عن الناس، عازفة عن الطعام والشراب لا تلغو ولا تنام، تبكي وتنشج.
ولم يكن سكوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سكوت الصدق معاذ الله، ولكن سكوت الصابر، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وحين كثر القيل والقال، خطب في الناس فقال: أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك عن رجل ما علمت منه إلا خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي (يعني صفوان بن المعطل) فسكت الناس جميعاً. ثم أراد رسول الله أن يستشير خلصاءه في هذا الأمر وأصفياءه، فاستدعى إليه ابن عمه علي بن أبي طالب وحبه أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) وسألهما رأيهما: فقال أسامة: إنك لأعلم الناس بعائشة يا رسول الله، وإن الناس لتكذب، وما عرفنا عنها إلا خيراً.
وأما علي فقال: يا رسول الله، إن النساء كثيرات، وإنك لقادر على أن تستخلف (أي تنجب الأبناء) وسل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله جاريتها بريرة ليسألها فتقول: والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً إلا أني كنت أعجن فآمرها أن تحفظه فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله!
وحين سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: تسألني يا رسول الله عن عائشة وإني بدوري أسألك: من زوجك إياها؟ فأجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدوء: الله تعالى. فقال عمر: إذاً أفتظن أن الله قد خدعك ودلس عليك فيها؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
البراءة من السماء وفتر الوحي، وتوقف مدة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما جعل لألسنة السوء والفحشاء مجالاً وميداناً فسيحاً..! ولم يبقَ أمام رسول الله من حيلة إلا المواجهة، فعزم على الذهاب إلى دار أبي بكر (رضي الله عنه)، وحين دخل عليه الصلاة والسلام إلى الدار، كانت عائشة تبكي وبجوارها امرأة من الأنصار، فكفكفت دمعها، ومسحت عينيها، ثم جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبالتها يسألها: يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله، فإن كنت قد قارفت سوءاً مما يقولون فتوبي إلى الله، إن الله يقبل التوبة من عباده. ونزل القول على رأس عائشة نزول الصاعقة، فخيم الصمت الرهيب على المكان، وشمل الجميع السكوت.. ولكن عائشة وحدها تكلمت ودموعها تدفقت من عينيها بغزارة. تكلمت لتدافع عن نفسها، ثم نظرت إلى والديها، وقالت صائحة صارخة: ألا تجيبان؟! فقالا: والله ما ندري بماذا نجيب. فعادت إلى البكاء مع النشيج، وقد تقطعت نياط قلبها حزناً وألماً، ثم التفتت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني بريئة، لأقولنّ ما لم يكن، ولئن أنكرت ما يقولون لا يصدقونني،


سلسلة أمهات المؤمنين عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنهما)(2)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع