مدونة عبدالحكيم الأنيس


الإمام الغزالي في بغداد (2)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


14/03/2023 القراءات: 518  


فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيلَ الرحيلَ! فلم يبقَ مِن العمر إلا قليل، وبين يديك السفرُ الطويل، وجميعُ ما أنت فيه من العلم والعمل رياءٌ وتخييل! فإنْ لم تستعدَّ الآن للآخرة، فمتى تستعد؟ وإنْ لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعثُ الداعية، وينجزمُ العزمُ على الهرب والفرار! ثم يعود الشيطانُ ويقول: هذه حالٌ عارضة، إيّاك أنْ تطاوعها، فإنها سريعةُ الزوال، فإنْ أذعنتَ لها وتركتَ هذا الجاهَ العريض، والشأنَ المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمرَ المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتتْ إليه نفسُك، ولا يتيسرُ لك المعاودة.
فلم أزل أترددُ بين تجاذبِ شهواتِ الدنيا، ودواعي الآخرة، قريبًا من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وفي هذا الشهر جاوز الأمرُ حدَّ الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل اللهُ على لساني حتى اعتُقل عن التدريس، فكنتُ أجاهدُ نفسي أنْ أدرِّس يومًا واحدًا تطييبًا لقلوب المختلفة إليَّ، فكان لا ينطلقُ لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعُها البتة، حتى أورثتْ هذه العقلة في اللسان حزنًا في القلب، بطلتْ معه قوةُ الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغُ لي ثريد، ولا تنهضمُ لي لقمة، وتعدّى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباءُ طمعَهم من العلاج وقالوا: هذا أمرٌ نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروَّح السرُّ عن الهم المُلم. ثم لما أحسستُ بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأتُ إلى الله تعالى التجاءَ المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيبُ المضطرَّ إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراضَ عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، وأظهرتُ عزمَ الخروج إلى مكة وأنا أدبرُ في نفسي سفر الشام، حذرًا أن يطلع الخليفةُ وجملةُ الأصحاب على عزمي على المقام في الشام، فتلطفتُ بلطائف الحيل في الخروج من بغداد، على عزم أنْ لا أعاودها أبدًا. واستهدفتُ لائمةَ أهل العراق كافة، إذ لم يكن فيهم مَن يجوزُ أن يكون للإعراض عمّا كنتُ فيه سببٌ ديني، إذ ظنُّوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين، وكان ذلك مبلغهم من العلم، ثم ارتبك الناسُ في الاستنباطات، وظنَّ مَنْ بعُدَ عن العراق، أنَّ ذلك كان لاستشعارٍ مِن جهة الولاة، وأما مَنْ قرُب من الولاة كان يشاهد إلحاحَهم في التعلُّق بي والانكباب عليَّ، وإعراضي عنهم، وعن الالتفات إلى قولهم، فيقولون: هذا أمرٌ سماويٌّ، وليس له سبب إلا عينٌ أصابتْ أهلَ الإسلام وزمرة أهل العلم. ففارقتُ بغداد، وفرَّقتُ ما كان معي من المال، ولم أدخرْ إلا قدر الكفاف، وقوت الأطفال، وترخُّصًا بأن مال العراق مرصدٌ للمصالح، ولكونه وقفًا على المسلمين. فلم أرَ في العالَم مالًا يأخذُه العالمُ لعياله أصلحَ منه. ثم دخلتُ الشام".
وجاء في "تاريخ دمشق": "فقدم دمشق سنة (489)، وأقام بها مدة، ثم رجع إلى بغداد، ومضى إلى خراسان".
وفي رجوعه إلى بغداد هذا لقيه أبو بكر ابن العربي، وحادَثه وساءَله، وأورد هذا في كتابيه "العواصم من القواصم"، و"قانون التأويل" في مواضع متعددة فلتنظر فإنها مفيدة طريفة، وقد يسمّيه "دانشمند" أي الحكيم.
وقد نزل في هذه المرة في رباط أبي سعد بإزاء "النظامية"، وأملى كتابه الإحياء «فكان يجتمعُ إليه الخلقُ الكثيرُ كل يوم في الرباط فيسمعونه منه» .
ومِنْ كلام ابن العربي في "قانون التأويل" وهو يحكي أخبار وجوده في بغداد: "ورد علينا دَانِشْمَنْد، فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية مُعرضًا عن الدنيا، مُقبلًا على الله تعالى، فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنتَ ضالتنا الذي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحقّقنا أنَّ الذي نُقل إلينا من أن الخبر عن الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم، ولو رآه علي بن العباس لما قال:
إذا ما مدحْتَ امْرَءًا غائِبًا … فلا تغلُ في مدحه واقصدِ
فإنك إنْ تغلُ تغلُ الظنو … نُ فيه إلى الأمدِ الأبعدِ
فيصغرُ مِن حيثُ عظَّمته … لفضلِ المغيبِ على المشهدِ
فإنه كان رجلًا إذا عاينتَه رأيتَ جمالًا ظاهرًا، وإذا عالمتَه وجدتَّ بحرًا زاخرًا، وكلما اختبرتَ احتبرتَ، فقصدتُّ رباطه، ولزمتُ بساطه، واغتنمتُ خلوته ونشاطه، وكأنما فَرَغَ لي لأبلُغَ منه أملي، وأباح لي مكانه، فكنتُ ألقاه في الصباح والمساء، والظهيرة والعشاء، كان في بَزَتِّهِ أو بَذْلَته، وأنا مستقلٌّ في السؤال، عالمٌ حيث تؤكل كتفُ الاستدلال، وألفيتُه حَفِيًّا بي في التعليم، وفيًّا بعهدة التكريم".
ويُذكر أنه كان لقيه في إحدى البراري:
ذكر الشيخُ علاء الدّين علي بن الصيرفي في كتابه «زاد السالكين» أن القاضي أبا بكر بن العربي قال: رأيتُ الإمام الغزالي في البريّة وبيده عكازة، وعليه مرقعة، وعلى عاتقه ركوة، وقد كنتُ رأيتُه ببغداد يحضرُ مجلسَ درسه نحو أربع مئة عمامة مِن أكابر الناس وأفاضلهم، يأخذون عنه العلم. قال: فدنوتُ منه وسلّمتُ عليه، وقلتُ له: يا إمام! أليس تدريسُ العلم ببغداد خيرًا مِن هذا؟ قال: فنظرَ إليَّ شزرًا وقال: لمّا طلع بدر السعادة في فلك الإرادة - أو قال: سماء الإرادة- وجنحتْ شمسُ الوصول في مغارب الأصول:
تركتُ هوى ليلى وسُعدى بمعزلِ … وعدتُّ إلى تصحيح أول منزلِ
ونادتْ بي الأشواقُ مهلًا فهذه … منازلُ مَنْ تهوى رويدك فانزلِ
غزلتُ لهم غزلًا دقيقًا فلم أجدْ … لغزليَ نسّاجًا فكسّرتُ مغزليِ
نقل هذا ابنُ العماد في «شذرات الذهب»، وفي الخبر حاجةٌ إلى تحقق.
***
كتبتُ هذا المقال عام (1986) في بغداد، -وشذ عني بعضه-، ثم استجدتْ معلوماتٌ وفوائد وأخبارٌ أخرى، ولولا ضيقُ الوقت لأدرجتُها، وعسى أن يكون هذا في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
والموضوع: يمكن أن يُكتب فيه بحثٌ مطولٌ بل كتاب بمفرده، تُستقصى فيه تفاصيلُ وجوده فيها في الدخول الأول والثاني، وتُحقق التواريخ، ويُعرف بتصانيفه وتلاميذه فيها، ويكون كتابًا ممتعًا بحق.
ومن المصادر النافعة في ذلك ترجمته في صدر "شرح الإحياء" للزَّبيدي.
***


الغزالي. بغداد. التزكية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع