مدونة أ.د. عقبة جنان الزّاوي


المسؤولية المجتمعية و استشراف المستقبل : "زلزال تركيا و سوريا، من دمار الموت إلى صناعة الحياة ! "

أ.د. عقبة جنان الزاوي | Okba DJENANE al-Zawi


14/02/2023 القراءات: 353   الملف المرفق


لقد تركت الحادثة الأليمة التي ألمّت بأُمّتنا، إثر زلزال تركيا و سوريا، أثراً بالغاً في الأنفس و المُخِيّلات! فوَجدنا بدافع الشعور بالمسؤولية المجتمعية و الالتزام الأخلاقي، ضرورة المساهمة و لو بالتّعليق على هذه الحادثة التي أقل ما يُقال عنها أنها "فاجعة"؛ إذ لا يُمكِن بحال أن تَمرّ دون تعليق أو عدم اكتراث !
فإذا كانت الفاجعة مثار عدّة تساؤلات من قِبَل من نظنّهم من البُسطاء، فهي أدعَى مِمن نعدّهم من العلماء ؛ و هذا من أجل فَهم الحادثة بكل تَمظهُراتها من جهة، و تقييم الآثار المادية و المعنوية، ثم محاولة استخلاص الدّروس لتعلُّم اتخاذ الإجراءات اللازمة في حينها من جهة أخرى. و كذا تصوّر الحلول، للتّخفيف من وطأة الفاجعة على صعيدَيْ الأثر العام و الخاص.
تُقدِّم مساهمتنا المتواضعة بعض الأفكار، و التي يمكن أن تكون محاولة لفهم أثر الحادثة على المستوى المعنوي و الفلسفي، و خطوة في تفعيل التفكير الجماعي، و لَبنة في الإدارة التّشاركيّة المسؤولة. و هذا قصد ملاحظة و قياس آثار هذه الحادثة؛ لاستشراف خُطط على أكثر من صعيد؛ بغرض امتصاص الصّدمة و الخروج من الأزمة و إنقاذ ما يُمكِن إنقاذه.
لعلّ أكبر درس تُعلِّمنا إيّاه الكوارث، هو الانتباه إلى الأشياء من حولنا و التعرّف إليها للعيش في وِفاق معها، و الوعي بذواتنا للعودة إليها في لحظة كشف و مصارحة ؛ لحثِّ العزم في تغيير نمط تفكيرنا و أسلوب عيشنا بالتالي. لقد تعلّمنا من تاريخنا العلمي التّليد، أن أطباءنا الكبار (الرازي و ابن سينا و الزّهراوي...) تغلّبوا على عِلل مرضاهم بالتشخيص القائم على الوضوح و المصارحة !؟ و موقف الوضوح و المصارحة هذا، يَتوافق تماماً مع روح و مقاصد التفكير النقدي Critical thinking؛ الذي يُسهم في بناء مجتمع قوي ثابت و مَتين. فبموقف المصارحة و التفكير النقدي يُمكِن أن نكفُل العلاج لأمراضنا على اختلافها و تنوعها؛ و لا يجب أن ننسى أن الكوارث حوادث مفاجئة على أوسع نطاق، تستوجب جهوداً جاهزة و حكيمة على أوسع نطاق أيضا.
و بقدر ما اتفَق لنا أن سَمعنا أو قرأنا كوارث طبيعية عبر التاريخ، تَظل تَجربة معايشة أية حادثة أو جائحة عن كَثب، أو من الدّاخل فارقة عن معايشتها عن بُعد أو من الخارج. إن ما يُميّز أية كارثة أو جائحة هو شروطها الخارجة عن المألوف، و ذلك بالنظر إلى التزايد المذهِل لعدد الضحايا، و ارتفاع نسبة الخسائر المادية على اختلافها؛ زيادة على احتمالية انتشار الأمراض بوتيرة سريعة و على أوسع نطاق؛ مِما يَجعل من الكارثة « صدمة مُتعاظمة »؛ فهي ظاهرة أو حادثة تبدأ فجأة، و تستمر احتمالية ماضية في الزمن... الأمر الذي يَجعل من التّرقّب و التوجّس و الذّعر ؛ حالات تَصل في تفاقمها حَدّ اللاّتكون أو التشوّش، الذي يُشرف على حالة من الفوضى Chaos !
و لأننا لا نُريد الاكتفاء بالذهاب في اتجاه الطريق الذي قد لا يَغفل عنه أيّ مُتفكِّر، نُريد أن نَذهب حيث لا يوجد طريق واضح؛ فنَترك أثراً متواضعاً لعلّه يكون سبباً في اهتداء من يجئ خَلفنا؛ و نريد أن يكون هذا الأثر في صورة اقتراح جملة من التدابير الوقائية و العلاجية العامة، أو التنويه إليها على الأقل، بما يتوافق و شروط الحياة العصرية التي لا تفتأ تتطور يوما بعد يوم؛ و هي قابلة للتكييف و التطوير بحسب حاجة كل مجتمع لها :
- التهيؤ لهذا النوع من الأزمات و الكوارث على المستوى المعنوي، كالتكفل الرّوحي بربط الكوارث بفكرة القضاء و القدر لتقوية الإيمان، و فهم أبعاد الابتلاء الدنيوية و الأخروية. و التكفّل النفسي قصد العمل على التخفيف من أثر الصدمة؛ استناداً على استراتيجية التهوين بدل التهويل ؛
- الاهتمام بشرح فكرة الخطر و مستوياته؛ من أدناه إلى أقصاه، و تحسيس الأفراد من خلال أمثلة عملية، إلى أن يُصبح الإحساس بالخطر و تمييز مستوياته، ثقافة في المجتمع و سلوكاً راجعاً على الأفراد ؛
- التهيؤ على المستوى العملي و الفنّي ؛ بالتفكير في إنشاء مراكز إسعاف طبيّة، بكل أطقمها المؤهَّلة للتدخّل في الحالات الاستعجالية الجماعية خاصّة (كالحريق،...). على أن تساهم هذه المراكز في تدريس و امتحان مهارات الإسعافات الأولية، لجميع أطوار التعليم كمتطلبات ضرورية، و تقديم شهادة First Aid Certificate في هذا الشأن ؛
- تنظيم مناورات دورية في المؤسسات على اختلاف أنواعها، تكون مناسبة لتَحيِين و شرح تعليمات السَّلامة بأنواعها، و طرق التّصرف العملي و التّكيف النفسي على مستوى الأفراد و الحشود؛
- التفكير في إنشاء مراصد وطنية للكوارث الطبيعية، تضم جملة من الكفاءات و اللجان الوطنية البَيْن تَخصُصيّة، تُسنَد لها مَهمّة تَتبّع و وضع الاستبانات العلمية لقياس مدى تأثير الكوارث على عدة صُعد (نفسية،...)، بالاستناد على المعطيات التي تَنقُلها الأطقم الطبية و التّمريضية من الميدان.
لقد استقرّت لدينا، بعد جائحة كورونا التي وَضَعت كل شيء على المِحك، قناعة مفادُها؛ ضرورة مراجعة الكثير من الأمور، و على رأسها منظوماتنا التعليمية و التربوية، التي أبانت على كثير من الأعطاب؛ تجلّت في السَّلبية التي غَلبت على مواقف كثير من الأفراد. فالتعليم في أقصى مُخرجاته لا يَجب أن يَصنع الفرد أو المواطن المَحلّي الصالح لنفسه وفقط، لأن مواطنا من هذا النوع، مواطن « كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ »؛ فالصلاح و النّفع الذي لا يَتعدّى للغير لا خير فيه ! و عليه، فالمرجو هو المواطن المُنخرِط في مجتمعه و الحامل لهمومه، بل "المواطن العالمي الإنساني" النافع لغيره من بني البشر، بما أوتي من خيال مُبدِع و "رحيمية" انضوى تحت جناحها ! قادر على إدارة الأزمات الجِدِّية و المستجِدّة لصناعة الحياة. إن في الزلزلة ابتلاء، و في الابتلاء قصد، و في القصد انتقاء، و في الانتقاء اصطفاء و ارتقاء ! فمَن ابتلى و انتقى و اصطفى، كفيل بأن يُبدِّد بنوره ظلمة الخوف و يُخمِد نار التّرقب و يُبرِئ الجُرح و يُكَــفكِـف الدَّمع و يَشدّ العـزم نحوَ غدٍ أفضل، إن شاء الله تعالى...


المسؤولية المجتمعية، زلزال تركيا و سوريا، صناعة الحياة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع