مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


سلسلة أمهات المؤمنين رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها(1)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


27/04/2023 القراءات: 161  


فلما كان مساء ذلك اليوم، دعا النجاشي المسلمين اللاجئين عنده إلى قصره، وخطب فيهم، فقال:
لقد كتب إلي محمد صلى الله عليه وسلم أن أزوجه رملة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه، وأصدقتها عنه أربعمائة دينار… ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. عندئذ نهض وكيلها خالد بن سعيد بن العاص وقال: الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما بعد، فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته رملة، فبارك الله لرسول الله، ثم دفعت الدنانير لخالد ولما أراد القوم الانصراف، قال لهم النجاشي: اجلسوا… فسنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يقدموا الطعام لمن حضر الزواج ثم دعا بطعام، فأكلوا… ثم تفرقوا.
الحكمة السامية
لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكمته البالغة أن ينال بهذا الزواج أموراً كثيرة، ويحقق أغراضاً عظيمة، وأهدافاً سامية. فبالإضافة إلى المواساة التي لقيتها رملة رضي الله عنها فاستكانت بعد قلق، وهدأت بعض اضطراب، نال عليه الصلاة والسلام فتحاً كبيراً على أكبر عدو له ولدينه ولدعوته، لقد انتصر على أبي سفيان والدها، الذي كان يترأس حرب المشركين، ويقود كل معركة، ويدبر كل مؤامرة، ويتزعم كل جيش. وهكذا كان رسول الله يقضي في الأمور ويتصرف بحكمة عالية، وهمة سامية، وبعد نظر. لم تكن لتتحرك فيه إلا رغبة في الحفاظ على وحدة المسلمين وتماسكهم، ومواساتهم، والانتصار لهم.
في بيت النبوة
فلما كان يوم فتح خيبر، صادف وصول المهاجرين، العائدين من الحبشة بعد طول غياب، امتد ما يزيد على خمسة عشر عاماً، واستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً مبتهجاً قال: لا أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟
وكانت رملة رضي الله عنها، مع الوفد القادم، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقامت في حجرة من حجرات بيت النبوة…، فكانت زوجة تقدر مسؤوليتها، وتحفظ مكانتها، وتحرص على إسعاد وراحة زوجها.
وعرف لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرها ومكانتها، فأغدق عليها من فيض حنانه وحبه، ورعايته وعطفه.
لا ولاية بين الإيمان والكفر
وليس أدل على وفائها وإيمانها ودينها من تلك الحادثة المشهورة في حياتها، إذ قدر لها أن تواجه أباها أبا سفيان وجهاً لوجه… هي مؤمنة وزوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو كافر مشرك، سيد قريش بلا منازع، له رهبة وهيبة… لكنها رضي الله عنها وقفت له الند للند… لا تخشى أذاه، ولا ترهب سطوته ولا تجزع من سلطانه وجبروته… عرفته مكانته بين الإيمان والكفر بمنتهى رباطة الجأش والسكينة، وقالت بالفم الملآن:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وتعلن بكل فخر واعتزاز ولاءها لله تعالى ولرسوله… لا لأحد سواهما. فقد حدث بعد فترة من عقد صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين وفد قريش، أن نقض حلفاء قريش بنو بكر هذا الصلح، وانقضوا على بني خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وساعدتهم قريش على ذلك، فجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجيراً… فوعده عليه الصلاة والسلام خيراً وطمأنه. وأدرك أبو سفيان زعيم قريش مغبة الأمر، واستشعر في نفسه خطورته، فجهز نفسه وقصد إلى المدينة المنورة، ليثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقد، ويمدده، وينفي عن قريش سوء فعلها، ويتبرأ منه؛ فلما انتهى إلى المدينة دخل على ابنته رملة، رضي الله عنها، يطلب وساطتها لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يجلس على فراش النبي، ليستريح، فطوته عنه ابنته ومنعته، فقال غاضباً متعجباً: يا بنية… ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟! فأجابته قائلة: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ مشرك نجس، ولا أحب أن تجلس على فراش رسول الله. فازداد أبو سفيان غضباً واستنكاراً، وقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر… فأجابت واثقة مطمئنة: بل هداني الله للإسلام، وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام! وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر..؟ استمع إليها وهو يكاد يتميز من الغيظ ثم خرج من عندها غاضباً، قد أذله الهوان، وتكامن كبرياؤه وغروره ثم قصد إلى أبي بكر، ثم عمر رضي الله عنهما يتوسطهما، فرفضا. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فصده ولم يقبل وساطته، فعاد إلى مكة فاشلاً خائباً، خالي الوفاض. وحين أخبر زوجته هند بنت عتبة بما كان من أمره في المدينة، اشتدت عليه في اللوم، وكانت شديدة متسلطة، وقالت له: قبحت في سفير قومك فما جئت بخير!
تحية وتقدير
وقفة إجلال وإكبار تقفها أمام أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، نحيي فيها صلابة إيمانها، وقوة إسلامها، وعظمة شخصيتها، ونقدر فيها سموها وارتفاعها عن أوضار الجاهلية والقيم الجوفاء التي تعارف عليها أهلها، وتعاملوا فيها بينهم على أسسها، فإذا بأم حبيبة، رضي الله عنها، تنقضها دفعة واحدة، وترمي بها في وجوه أصحابها، فلا تعتمد إلا على الله وحده، ولا تثق إلا به سبحانه، ولا تلجأ إلا إليه تعالى، لا تقيم وزناً لنسب إلا نسب الإيمان والإسلام.
وهكذا المؤمن الحق، لا يعرف صلة إلا الصلة بالله وحده. وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما حدث بين أم حبيبة ووالدها أبي سفيان، ازدادت قيمتها في نظره، وسمت مكانتها في قلبه، فبالغ في إكرامها وتقديرها كفاء ما قدرت وعظمت حرمة الدين.
كما علت مكانتها بين أخواتها من أمهات المؤمنين، والصحابيات الكريمات. وقدر أيضاً كبار الصحابة، رضوان الله عليهم، ما انطوت عليه نفسية أم حبيبة من إباء وشمم، مبعثهما الإيمان العميق، وحب المصطفى صلى الله عليه وسلم .


سلسلة أمهات المؤمنين رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها(1)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع